إسرائيليات المدرسة العنفية

صبحي غندور*

[email protected]

عملت (إسـرائيل) منذ 11 أيلول/سـبتمبر 2001 على اسـتغلال الهجمات الإرهابيـة التي وقعت في أمريكا من أجل خدمـة عدَّة غاياتٍ، حاولت منذ مطلع التسـعينات تحقيقها؛ فمنذ انتهاء الحرب الباردة، تُحاول (إسـرائيل) تأكيد أهميـة دورها الأمني بالنسـبـة للغرب عموماً، ولأمريكا خصوصاً، بعدما تحجَّم هذا الدور حصيلة انهيار الاتحاد السوفييتي واستفراد أمريكا بموقع "الدولة الأعظم" في العالم. فإذا كانت معظم دول منطقة الشرق الأوسط (بما في ذلك باكستان) هي في حال معاهدات وتعاون أمني مع أمريكا والغرب، وإذا كانت البوارج الأمريكية تُحيط بكلِّ شواطئ المنطقة، فما الحاجة الأمنية (لإسرائيل)؟ سـؤال وجدت (إسـرائيل) الإجابـة عنـه في إدخال الغرب بحالـة حربٍ مع "الإرهاب العربي والإسـلامي" بحيث يكون لها دورٌ هام في هذه الحرب المفتوحـة زمانياً ومكانياً.

لكن كيف كان يمكن (لإسرائيل) أن تُحقّق ذلك؟

خلال حقبة الحرب الباردة، كانت ألمانيا الشرقية تلعب دوراً أمنياً كبيراً وسط الجماعات والمنظمات الشيوعية الدولية التي تقصد موسكو من أجل الحصول على دعمٍ وتدريباتٍ وتوجيهات. وكانت موسكو تُرسل هذه الجماعات إلى برلين من أجل تنسيق العلاقات الاستخباراتية وتدريب الكوادر وتوجيهها. وعقب سقوط الاتحاد السوفييتي وانهيار النظام الشيوعي في ألمانيا الشرقية، تبيَّن أنَّ رئيـس الاسـتخبارات فيها واسـمه (ماركوس وولف) كان عميلاً مزدوجاً مع (إسـرائيل) وهو الذي كان يُشرف على تدريب وتوجيه كوادر في منظماتٍ عربية شيوعية قام بعضها بعمليات خطف طائراتٍ مدنية وتفجيراتٍ حدثت في مدنٍ أوروبية!

فماذا يمنع أن تكون المخابرات الإسـرائيليـة قد جنَّدت أيضاً مجموعـة من العملاء المزدوجين ـــــ مثل حالة ماركوس وولف ـــــ من الشـيشـان وصولاً إلى نيجيريا لتأسـيـس أو لتدريب وتوجيـه حركات أو منظمات تحمل أسـماء "إسـلامية" تماشـياً مع مرحلـة ما بعد الحرب الباردة وبدء الصراع بين الغرب و"العدو الإسـلامي" الجديد المصطنع؟!

يكفي أن نستعيد تاريخ الممارسات الإسرائيلية في الستين سنة الماضية، ومن ضمنها ما حاوله عملاء إسرائيليون في عقد الخمسينات بالقاهرة من تفجير مؤسساتٍ أمريكية وبريطانية من أجل تأزيم العلاقات مع مصر عبد الناصر، وهي العملية المعروفة باسم "فضيحة نافون" في العام 1954.

ثمّ هل يجوز تناسي ظاهرة (كوهين) العميل الإسرائيلي الذي استطاع الوصول إلى مواقع رسمية سوريّة مسؤولة في مطلع الستينات من القرن الماضي!؟

وهل ينسى اللبنانيون والفلسطينيون الأعداد الكبيرة من العُملاء الإسرائيليين الذين كشفوا عن أنفسهم مع الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، وبينهم من كان مرافقاً لياسر عرفات في مقرّه الأمني في بيروت، وآخرون من العُملاء الذين تبرّأت منهم أحزاب لبنانية ومنظمات فلسطينية وجرى أواخر العام 1982 نشر أسمائهم في الصحف اللبنانية!؟

فإذا كانت (إسرائيل) وأجهزتها الأمنية تتسلّل إلى أهمّ المواقع السياسية والأمنية في دول كبرى ومنها الحليف الأكبر لها أمريكا، فلِمَ لا تفعل ذلك مع أعدائها المحيطين بها؟ إذ رغم كلّ العلاقات الخاصّة يين أمريكا و(إسرائيل)، فإنّ واشنطن ترفض الإفراج عن (جيمس بولارد)، الأمريكي اليهودي الذي يقضي منذ العام 1986 عقوبة السجن بتهمة التجسّس (لإسرائيل)، وقد انضمّ إليه مؤخّراً عملاء جُدد كانوا يعملون لصالح (إسرائيل) في مواقع أمنية أمريكية، ومن خلال علاقتهم مع منظمة "الإيباك"، اللوبي الإسرائيلي المعروف بواشنطن.

كذلك كشفت السلطات المصرية عدّة مرات عن شبكات تجسّس إسرائيلية، ومازال بعض عناصر هذه الشبكات معتقلاً، رغم وجود علاقات طبيعيّة بين إسرائيل ومصر.

***

على الطرف العربي والإسـلامي، هناك عرب ومسـلمون يقومون أيضاً بخوض "معارك إسـرائيليّـة" تحت "رايات وطنيّـة أو عربيّـة أو إسـلاميّـة"، وعمليّاً يُحقّقون ما كان يندرج في خانـة "المشـاريع الإسـرائيليّـة" للمنطقـة من تقسـيم طائفي ومذهبي وإثني يهدم وحدة الكيانات الوطنيّـة ويُقيم حواجز دم بين أبناء الأمّـة الواحدة. أليـس مشـروعاً إسـرائيلياً تفتيت المنطقـة العربيّـة إلى دويلات متناحرة؟ أما هي بمصلحـة إسـرائيليّـة كاملـة نتاج ما جرى في العراق من سـعي لهدم كيانـه الوطني الواحد ووحدتـه الشـعبيـة، وما حدث قبل ذلك في الحرب الأهليـة اللبنانيـة وفي الاجتياح الإسـرائيلي للبنان، ثمّ الحرب الأهليـة في السـودان التي انتهت بفصل جنوبـه عن شـمالـه، ثمّ ما حدث ويحدث الآن في سـوريا!؟

إنّ هذا "الوباء الإسرائيلي" التقسيمي لا يعرف حدوداً، كما هي دولة (إسرائيل) بلا حدود، وكما هم العاملون من أجلها في العالم كلّه.

ثمّ هل كانت مصادفـة زمنيّـة أن يكون العام 2001 هو عام بدء حكم "المحافظين الجُدد" في أمريكا مع ما كانوا عليـه من صفـة تطرّف عقائدي بطابع ديني مسـيحي، وعام وصول (شـارون) لرئاسـة حكم (إسـرائيل) على قاعدة تطرّف ديني يهودي، ثمّ بروز "القاعدة" ووقوع أحداث الإرهاب في أمريكا على أيدي جماعات متطرّفـة بطابع ديني إسـلامي!؟

نعم، لقد نجحت (إسـرائيل) في العقدين الماضيين بتشـويـه صورة العرب والمسـلمين في العديد من وسـائل الإعلام الغربيـة، وفي إعطاء "نماذج" سـيئـة عن المجتمعات الإسـلاميـة، وفي التركيز على ظواهر سـلبيـة في العالم الإسـلامي من أجل بناء ملامح صورة "العدو الجديد" للغرب، بحيث أصبحت الهويّـة الإسـلامية أو العربيـة موسـومـة بالتخلّف و"الإرهاب" حتى لو كان هذا "المسـلم" أو ذاك "العربي" يعيـش في الغرب لعقودٍ طويلـة، أو كان "مواطناً" في بلدٍ غربي... وكأنَّ التخلّف والإرهاب هما سِـمات جينيـة تنتقل بين المسـلمين والعرب بالوراثـة!! ويظهر عمق الجهل الغربي بالمسـلمين والعرب عموماً في عدم التفريق بين "المسـلم" و"العربي"، فكلاهما واحد بنظره، على الرغم من أنَّ عشـرات الملايين من العرب هم من المسـيحيين، ومئات الملايين من المسـلمين هم من غير العرب..!!

المشكلة أنّه حينما تسقط الدولة في أيِّ وطن، يهوي الانتماء الوطني الواحد أيضاً لترتفع مكانه إنتماءات أخرى هي أقلّ من نسيج الوطنية وأشدّ ارتباطاً بالخصوصيات التي يتكوّن منها أيّ مجتمع. ألم يحدث ذلك في تجارب لبنان والعراق وليبيا؟!

فقد ساهم الاحتلال الأمريكي للعراق مثلاً بتهديم الدولة العراقية وليس فقط بإسقاط النظام، مما أدّى إلى تمزيق النسيج الوطني العراقي، وصياغة بدائل أخرى قامت على خيوط طائفية ومذهبية وإثنية، عزّزت نمو ظاهرة التطرّف العنفي داخل العراق، وبدعم إقليمي ودولي، ثمّ أصبحت "عروبة" العراق هويّة "قيد الدرس" في ظلّ فرز انقسامي داخلي بين سنَّة وشيعة، فيُقال السنّة "العرب" والشيعة.. ولا يُقال حتّى الشيعة العرب!! تماماً كما جرى فرز المذهب الإسلامي السنّي في العراق إلى "أكراد" و"عرب"، فأصبح الأكراد قوّة منفصلة مخاصمة لمن يُشاركونهم الدين والوطنية منذ مئات السنين.

هناك بلا شك مسؤولية "غربية" وأمريكية وإسرائيلية عن بروز ظاهرة التطرف والإرهاب بأسماء "إسلامية"، لكنّ ذلك هو عنصرٌ واحد من جملة عناصر أسهمت في تكوين وانتشار هذه الظاهرة.

ولعلّ العنصر الأهمّ والأساس هو العامل الفكري/العَقَدي حيث تتوارث أجيال في المنطقة العربية والعالم الإسلامي مجموعةً من المفاهيم التي يتعارض بعضها مع أصول الدعوة الإسلامية، ومع خلاصة التجربة الإسلامية الأولى منذ فترة الهجرة النبوية إلى المدينة وصولاً إلى نهاية عهد الخلفاء الراشدين.

ولقد ساهمت الحقبة العثمانية، ثمّ فترة الاستعمار الأوروبي من بعدها، في محاصرة الاجتهاد الإسلامي وفي الابتعاد عن المضمون الحضاري الإسلامي. أيضاً، كان للصراعات الدولية الكبرى إسهامٌ واسع في تأجيج ظاهرة التطرّف المسلّح بإسم الإسلام. حدث ذلك في حقبة الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن، حيث كانت حرب "المجاهدين الأفغان" هي الخميرة التي صنعت لاحقاً جماعات "القاعدة" وأساليبها الإرهابية في أكثر من مكانٍ وزمان.

هي كذلك أزمةٌ فكرية وسياسية في مسبّبات ظاهرة التطرّف المسلّح بإسم الدين، حينما تضعف الإنتماءات الوطنية وتسود بدلاً منها هويّات فئوية بمضامين طائفية ومذهبية ضيقة. ولعلّ بروز ظاهرة "التيّار الإسلامي" بما فيه من غثٍّ وسمين، وصالحٍ وطالح، في مطلع الثمانينات من القرن الماضي، ما كان ليحدث بهذا الشكل لو لم يكن هناك في المنطقة العربية حالة من "الانحدار القومي" ومن ضعف للهويّة العربية، ومن غياب للمرجعيات العربية والإسلامية الفاعلة التي كانت عليها مصر قبل المعاهدات مع (إسرائيل).

إنّ "المدرسة العُنفية" في بعض المجتمعات العربية والإسلامية تبرّر أعمالها بحصاد خطايا الآخرين، وتحاول تبرير أساليبها بما يرتكبه الآخرون، إلا أنّها، في ذلك، إنّما تخدم أيضاً الطرف الذي تدّعي هذه الجماعات بأنّها تحاربه وتستهدفه، وتبقى (إسرائيل) هي المستفيد الأول من ذلك كلّه!

               

* (مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن)