أيها المتزوجون .. تغافلوا تهنؤوا
جلس الزوجان أمامي ، يعرضان عليَّ نزاعهما ، لأفصل فيه ، وأحكم لأحدهما على صاحبه . استمعت إلى الزوج أولاً ؛ صار يتحدث عما يشتكيه في زوجته من طباع لم يكن يرتاح إليها ، ويذكر كلمات قالتها وجد فيها عدم احترام له ، ويشير إلى مخالفتها له في بعض آرائه وأفكاره . ثم تحدثت الزوجة ، فذكرت وعوداً من زوجها لها لم يفِ بها ، وعرضت لثلاث أو أربع مرات طلبت فيها من زوجها مالاً فلم يُعطها ، وأوردت حالات انشغل فيها عنهم وعن تلبية حاجاتهم . كان الزوجان على قدر عظيم من الخلق ، وكلاهما كان متديناً ، ولم يكن في شكاوى كل منهما إشارة إلى تقصير في عبادة أو ارتكاب لمحرم ، ولا اتهام في سوء خلق . جميع شكاوى الزوجين كانت حول تقصير أحدهما في أداء حق من حقوقه على صاحبه ، او إساءة أو أكثر صدرت عنه تجاه الآخر ، أو كلمات آذته صدرت عن صاحبه . وحين نستحضر أن ما مضى من زواج هذين الزوجين هو عشر سنوات ، سندرك أن زواجهما ناجح ، فليس ما ذكره الزوجان كثيراً في هذا العقد من الزمان ، وأكاد أجزم أنه لا يوجد زوجان لم يواجها مثل ما واجهه هذان الزوجان في زواجهما على مدى عشر سنوات . ما المشورة التي يمكن تقديمها لهذين الزوجين ، ولآلاف غيرهما يشتكون مثل شكاواهما ؟! إن هؤلاء يحتاجون إلى أدب التغافل ، التغافل عن كلمة لم أرتح إليها ، وإهمال لم يكن مقصوداً ، ومخالفة رأي يقع مثلها بين ملايين الناس ، وارتفاع صوت لم يتكرر كثيراً . قال الشاعر : ليس الغبي بسيد في قومه لكن سيّد قومه المتغابي وقال آخر : أًغمض عيني عن صديقي تغافلاً كأني بما يأتي من الأمر جاهلُ نعم ، نحتاج إلى قدر كبير مـن التجاهل والتغافل وإلا وقع الفراق ، وهو بين الزوجين .. الطلاق : تغافل في الأمور ولا تُكْثِرْ تقصِّيها فالاستقصاءُ فُرقة وسامحْ في حقوقكَ بعضَ شيءٍ فما استوفى كريمٌ قطُّ حقَّه ولعل إدراك كلا الزوجين أن من دلالات التغافل الكرم ؛ لحرصا عليه ، وتسابقا إليه . قال سفيان الثوري رحمه الله : مازال التغافل من فعل الكرام . وقال الحسن البصري رحمه الله : ما استقصى كريم قط . إن التغافل يساعد على مواصلة الحياة الزوجية ، كما قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله : تسعة أعشار العيش في التغافل . ويُروى : تسعة أعشار حسن الخلق ، وأيضاً : العافية عشرة أجزاء تسعة منها في التغافل . وقال علي رضي الله عنه : من لم يتغافل تنغصت معيشته . ويُصَعِّب التغافل على النفس ويمنع منه أمور منها : حسبان الإنسان إنه يَظهر للآخرين غبياً إذا تغافل عن بعض ما يصدر عنهم . لكن معرفة معنى التغافل يلغي هذا أو يبعده ، فالتغافل هو قصد الغفلة مع العلم والإدراك لما يُتغافل عنه تكرماً وترفعاً . كما قال الشافعي رحمه الله : الكيِّس العاقل هو الفطِنُ المتغافل . ولهذا فإنه يمكن أن يشير المتغافل إلى معرفته بما تغافل عنه لكن دون أن يقف عنده أو يحاسب عليه ، وذلك حتى لا يحسبه الآخر غافلاً إنما هو متغافل . الاعتقاد بأن التغافل ضعف بينما هو في الحقيقة قوة ، لأن تجاهل الإساءة أو الكلمة أو التصرف المزعج يحتاج قوة . كما قال صلى الله عليه و سلم في من يملك نفسه عند الغضب( ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ) والشديد هو القوي . عدم إدراك المتغافل أن فيه أيضاً نقصاً أو تقصيراً أو ارتكاباً لأخطاء وغيرها يتغافل الناس عنها ، أو أنه يُحب أن يتغافلوا عنها ولا يظهروها أو يحاسبوه عليها . ولا بأس من أن يتفاهم الزوجان على ذلك : كلانا تصدر عنه كلمات أو أفعال لا ترضي الآخر ؛ فلنتعاهد على أن يتسامح كل منا تجاه صاحبه حتى تهنأ حياتنا ويستقر زواجنا ، كما قال أبو الدرداء لأم الدرداء رضي الله عنهما : ( إذا غضبتُ فترضيني وإذا غضبتِ ترضيتك .. وإلا لم نصطحب ) . وفي رواية ( فمتى لم يكن هذا .. ما أسرع ما نفترق ) . قال الزهري : وهكذا يكون الإخوان : تتحمل مني في حال الغضب وأتحمل منك في حال الغضب . قد يحسب المرء أن تغافله يفقده محبة الناس ، لكنه لـو تدبر قليلاً لوجد أن العكس هو الصحيح ؛ أي أن المتغافل يكسب محبتهم ولا يخسرها . كما قال الشاعر : أحب من الإخوان كلَّ مواتي وكلَّ غضيضِ الطرفِ عن هفواتي وقال ابن حزم : احرص على أن توصف بسلامـة الجانب ، وتحفَّظ من أن توصف بالدهاء فيكثر المتحفظون منك ، حتى ربما أضر ذلك بك ، وربما قتلك . ولقد وجدنا النبي ينهى عن أن يبلغه أحد عن صحابته شيئاً فيقول ( لا يُبلغني أحد عن أحد شيئاً ، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر ) . ولقد قيل : تناسَ مساوئ الإخوان تستدم وِدَّهم . الظن بأن الآخرين سيحسبونه مهيناً إن تغافل عنهم ، بينما هو في الحقيقة يُعلي قدره بالتغافل . قال جعفر الصادق : عظِّموا أقداركم بالتغافل . وقال ابن الأثير في وصفه أخلاق صلاح الدين الأيوبي : وكان صبوراً على ما يكره ، كثير التغافل عن ذنوب أصحابه ، يسمع من أحدهم ما يكره ولا يُعلمه بذلك ، ولا يتغير عليه . وقال معاوية بن بي سفيان : العقل مكيال : ثلثه الفطنة ، وثلثاه التغافل . ضعف الثقة بالنفس وتأثرها بما يقول الناس : بينما الواثق بنفسه ، العالم بقدرها ، لا يكترث ولا يبالي ولا يهتم ولا يتأثر . قال النبي ( ألا تعجبون كيف يصرف لله عني شتم قريش ولعنَهم ؛ يشتمون مُذَمَّماً ، ويلعنون مذمماً ، وأنا محمد ) صحيح البخاري . ولعل قائلاً بعد هذا : إذن نترك النصيحة ، ونسكت على ما نرى من أخطاء ، ولا نأمر بمعروف ولا ننهى عن منكر ؟! والجواب : لا ، فما أردنا بالتغافل إلا ما فيه حظ للنفس والانتقام لها مما يأتيها من أذى الآخرين ، أما السكوت على المنكر فلا ، ولكن النهي يكون بالرفق واللين .
وسوم: العدد 665