محدّدات التقارب بين أطراف الحركة الوطنية العراقية
كلمات لا بدّ منها:-
هذه دراسة ميدانية حاولت فيها العودة إلى خزين الذاكرة التي عايشت ميدانيا أحداثا مر بها العراق قبل الاحتلال وبعده، ودول أخرى تعرّضت للاحتلال وأخذت منها ثلاث تجارب رئيسة، ولهذا ستبدو الدراسة خالية من المراجع والمصادر.
تمهيد:
قد يكون من المهم معرفة ظروف بلدان تعرضت للاحتلال في ظروف مماثلة أو متقاربة مع الظرف الناجم عن احتلال الولايات المتحدة الأمريكية للعراق، والأساليب التي تم اعتمادها في مواجهة المحتلين، وكذلك في توحيد الخطاب السياسي لفصائل المقاومة، وتنسيق العمل فيما بينها من أجل تسريع مهمة التحرير.
هناك ثلاث تجارب ملهِمة لشعوب العالم في اعتماد طريق الكفاح المسلح للوصول إلى هدف التحرير، من دون إغفال صفحات العمل السياسي شرط عدم التقاطع مع أهداف العمل المسلح، وشرط أنْ يكون معبّرا عن أهدافه ومتطابقا مع خاصية التمرحل في طرح الخطاب السياسي، وهذه التجارب هي:-
1 – التجربة الفيتنامية: يتألف الشعب الفيتنامي في غالبيته الساحقة من الديانة البوذية، وتنتمي أقلية منه إلى الديانة المسيحية على المذهب الكاثوليكي والذي انحصر في جنوب فيتنام، نتيجة عمليات التبشير التي رافقت الوجود الفرنسي في البلاد، فنظر إليه على أنّه نتاج مرحلة استعمارية، وحصل تطابق أو تقارب بين الديانة البوذية والعقيدة الشيوعية على الصعيد السياسي في رفض الاحتلال الفرنسي في المرحلة الأولى، ثم ضد الاحتلال الأمريكي في المرحلة الثانية من كفاح الشعب الفيتنامي، وعلى الصعيد العقائدي بالإيمان بفكر متداخل في الأسس العقائدية للديانة البوذية مع الفكر الماركسي الذي تم تطويعه في آسيا ليتناغم مع الواقع المحلي في الدول التي تبنت الشيوعية كخيار أيدلوجي لها، ولهذا كان أمرا طبيعيا رؤية الكهنة البوذيين وهم يحرقون أنفسهم بعناد لافت للنظر في شوارع سايغون دعما للثورة ضد الاحتلال الأمريكي، وطيلة زمن الاحتلالين الفرنسي والأمريكي لفيتنام، لم تبرز على السطح تناقضات على أسس عرقية أو دينية إلا ما وقع لعائلة نغوين دييم الكاثوليكية التي حكمت لبرهة وجيزة في فيتنام الجنوبية، ثم تعرضت لانقلاب عسكري دموي، وضع حدا لأي طموح لنشر المسيحية في بلد يعتنق البوذية – الشيوعية، ويبدو أنّ تماسك جبهة القوى التي كانت تقاتل ضد الاحتلال في كل مراحله، يعود لقوة الحزب الشيوعي وزعامة الرئيس (هو شي منة) في المجتمع الفيتنامي، وهكذا لم يطفو على السطح ، انقسام سياسي أو عرقي أو ديني خلال الحرب الفيتنامية رغم جسامة التضحيات التي قدمتها فيتنام بشطريها جراء الغارات الجوية الأمريكية على الشمال، أو نتيجة وجود بضع مئات من الآلاف من الجنود الأمريكان في الجنوب، ولم تصب التجربة الفيتنامية بمرض التشظّي الذي عادة ما تصاب به حركات التحرر بعد تحقيق الانتصار على الأعداء الخارجيين، ويبدو أنّ للماركسية الآسيوية أثرها الكبير في تماسك القيادة الفيتنامية حتى بعد رحيل قائدها التاريخي (هو شي منة).
2 – التجربة الجزائرية: يتألف المجتمع الجزائري من المسلمين الذين يتبّعون المذهب المالكي، ما عدا استثناءات ضئيلة حصلت في السنوات الأخيرة نتيجة عمليات التبشير المسيحية التي تتنافس عليها كنائس كاثوليكية وبروتستانتية، أو التي تتولاها إيران لتحويل بعض المواطنين نحو المذهب الجعفري الاثني عشري مستندة في ذلك على الوهج الإعلامي الذي تم إضفاؤه على حزب الله اللبناني المرتبط سياسيا ومذهبيا بإيران في إطار (ولاية الفقيه)، هذا من حيث الديانة، أمّا من حيث التركيب القومي في الجزائر، فالبلاد شأنها شأن معظم بلاد المغرب العربي، تعدّ من المجتمعات المختلطة، إذ يعيش فيها البربر إلى جانب العرب، وبرغم عدم دقة الإحصاءات التي يقدّمها كل طرف، ويحاول التقليل من النسبة السكانية للطرف الآخر، إلا أنّ هذه القضية لم تطف على السطح إلا بعد أنْ تم توظيفها سياسيا من قبل جهات تسعى لإثارة أسباب الانقسام في بلدان تعايشت مئات السنين دون أية مشكلات حقيقية، وعلى أية فرضية حول نسبة البربر قياسا إلى عدد سكان الجزائر، فإنّ ما يعنينا في هذه الورقة هو المدى الذي أثرت فيه التعددية العرقية في الجزائر، على وحدة حركة التحرر الوطني الجزائري أثناء الكفاح الوطني ضد الاستعمار الفرنسي وبعد الاستقلال.
من المعروف أنّ حركة التحرر الوطني الجزائري انطلقت في بداياتها كذراع عسكري لتنظيمات سياسية، لم يكن للتنوع القومي دور في رسم مساراتها، إذ أنّ ما هو شائع في عموم بلاد المغرب العربي، أنّ الإسلام ملتصق مع الانتماء للأمة العربية، فلا توجد فواصل بين العروبة والإسلام، ولعلّ الثورة الجزائرية مدّت جذورها عميقا في الوجدان الوطني، حينما أقامت حاجزا دينيا بين حضارتين وثقافتين، في طرفها الأول الحضارة والثقافة العربيتين، تواجهها في معادلة الصدام الحضارة الغربية، والتي يشكل الاستعمار الفرنسي رأس الحربة فيها، وحتى في تصدي الشعب الجزائري للاحتلال في بداية نجاحه في السيطرة على الجزائر عام 1832، كان الإسلام خلفية الصدام والقرآن شعاره، ولم يسقط هذان العاملان في أي وقت من مراحل التململ الوطني ضد الاستعمار حتى اندلعت الثورة الجزائرية في 1 تشرين الثاني / نوفمبر 1954، فقد وجد الثوار أنّ سياسة الفرّنسة التي اعتمدتها سلطة الاحتلال، كانت حافزا قويا للرد على محاولات طمس لغة القرآن، وحين اختار حزب الشعب الذي كان يقوده (مصّالي الحاج)، التعاون مع الفرنسيين ضد الثورة، فإنّه لم يفعل ذلك من منطلقات عرقية أو مذهبية بل من خيار سياسي محض، وكذلك الحال بالنسبة لكل الذين تعاونوا مع المحتل وقاتلوا أبناء شعبهم، والذين اختاروا الجنسية الفرنسية والإقامة فيها.
وحافظت جبهة التحرير الوطني الجزائرية على وحدتها، وواصلت دارة المعركة السياسية من السجن، وبنفس الوقت حافظت على دورها القيادي مع المقاتلين في الداخل ومع قيادة جيش التحرير التي كانت تتخذ من تونس مقرا لها، لكنّ النصر الذي تحقق باتفاقية إيفيان لعام 1962 لم يحافظ على وحدة البندقية التي قاومت المستعمر، وحصلت الانقسامات منذ الأيام الأولى حينما تمت الإطاحة بحكومة بن يوسف بن خدّة المؤقتة، والتي أعقبت حكومة فرحات عباس، ولم تتوقف دوامة صراع ما بعد النصر إلا بانقلاب 19 حزيران / يونيو 1965، ولكنّ هذه الانقسامات والتشظي لم تخرج من خلفيات عرقية أو طائفية أبدا.
3 - التجربة الفلسطينية:- تبقى القضية الفلسطينية من أكثر القضايا إثارة للتأمل من بين تجارب العالم المعاصرة، فإذا كان معروفا أنّ حركات التحرر يمكن أنْ تعاني من بعض الانقسامات بعد أنْ تنجز أهدافها في مواجهة عدوها المشترك، لأنّها تنتقل إلى مرحلة الصراع الداخلي، فإنّ (الثورة الفلسطينية) عاشت مرحلة الانقسام، ليس بين فصائلها المختلفة، وإنّما داخل كل فصيل ومنذ بداية انطلاقته، فمنظمة فتح والتي كان لها دور الريادة في إطلاق الرصاصة الأولى في 1/1/ 1965 أي بعد عقد ونصف من قيام دولة إسرائيل، عانت من الانشقاقات ولمّا تزل في بداية الطريق، وخرج من تحت عباءتها كوادر قيادية ناصبتها العداء ودخلت معها في حرب تصفية حسابات ، كانت تقتبس من كل مرحلة شعاراتها، و تطرح لها تبريرات فكرية وسياسية ومن بينها المجلس الثوري الذي قاده أبو نضال، وفيما خرجت منظمة فتح الانتفاضة وبعدها خرجت منظمة فتح الإسلام، وظلت المبررات تلك عاجزة عن أنْ ترقى إلى مستوى الحد الأدنى من قضية عادلة يمكن أنْ تستدرج قوى متشابهة في مشاريعها إلى حلبة صراع دموي في بعض صفحاته.
إذا ألقينا نظرة سريعة على مكوّنات الشعب الفلسطيني، فسوف نراه يتألف في غالبيته العظمى من العرب المسلمين السنّة، وهناك أقليات مسيحية ودرزية وقليل جدا من البهائيين، لكنّ هذا التنوع لم ينعكس بأية درجة على ما عاشته فصائل الحركة الفلسطينية من صراعات، بل يمكن الجزم بأنّ الصراعات كانت على أشدها في أوساط الأغلبية الساحقة من أهل فلسطين، وهم العرب المسلمون السنّة، والذين لم تبرز عندهم الطائفية قبلا بأي قدر من المقادير حتى دخلت إيران على خط التقاطع بحثا لنفسها عن مواقع نفوذ تحت لافتة دعم المقاومة الفلسطينية.
ربمّا تكون القضية الفلسطينية، أكثر قضية أفرزت في ساحة الصراع في الوطن العربي، منظمات وتشكيلات وفصائل، كلها ترفع شعار التحرير، ولكنّها جميعا تعيش حالة تنافس غير مشروع على توسيع قاعدتها الشعبية على حساب الأطراف الأخرى، أدى في بعض مراحله إلى اقتتال نتج عنه سقوط ضحايا من جميع الأطراف، وبسبب طبيعة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وبسبب توزع الفلسطينيين بعد عام 1948 على معظم بلاد المشرق العربي، فقد كان لكل بلد من هذه البلدان حضورا في هذه القضية وإنْ اختلف حجم هذا الحضور من بلد لآخر، وكذلك دخلت الأيدلوجيات والمعتقدات الدينية والقومية والماركسية على خط الصراع الحقيقي أو المفتعل، بين فصائل المقاومة الفلسطينية، ولم تتمكن منظمة التحرير الفلسطينية من الارتقاء بدورها إلى حد الفصل في المنازعات، وتنسيق الجهد المقاوم، بل ربمّا تحولت المنظمة في كثير من مراحل نشاطها إلى جزء من الأزمة الفلسطينية وليست جزءً من الحل، وأرى أنّ صراع الزعامة في الوسط الفلسطيني يأخذ بعدا أبعد مدى من أية تجربة اخرى في العالم ، فطبيعة الصراع وتعقيداته كانت تملي على كل الزعامات تعليق التناقضات الثانوية إلى ما بعد إنجاز هدف التحرير، ولكنّهم جميعا انساقوا وراء صراعات تدور كلها دون استثناء حول دور كل واحد منهم في الساحة أو دور منظمته، ثم يحاولون إلباس ذلك أردية فكرية أو سياسية تتناغم مع كل ظرف من الظروف السائدة وقتها.
وكما انشطرت منظمة فتح إلى أكثر من تشكيل ترفع كلها شعارا واحدا أو شعارات متقاربة، وكل منها يعتبر نفسه الخط الصحيح الذي يريد الحفاظ على مسار النشأة الأولى، فإنّ الجبهة الشعبية تشظّت إلى ثلاث منظمات على الأقل تحمل الاسم نفسه مع إضافات طفيفة، وانسلخت منها منظمات اخرى بأسماء بديلة، ومع صعود ما يصطلح عليه (بالصحوة الإسلامية) والدعوة إلى العودة إلى روح الإسلام، برزت على الساحة الفلسطينية حركات مثل الجهاد الإسلامي، التي كان يجب أنْ تحتفظ ببوصلة مسارها يكون الخطأ فيها بأقل مستوياته، ولكنّها سرعان ما عانت من التشرذم، وانسلخت عنها حركة (حماس) ولم يستطع أحدّ أنْ يتبين سببا وجيها واحدا يدعو إلى هذا الانقسام داخل الحركة الدينية، فإذا كان الانشطار في الحركات اللادينية يمكن أنْ يجد له تبريره وتفسيراته، فإنّ انشقاق حماس عن الجهاد الإسلامي وكذلك وجود تيارات مختلفة داخل حماس نفسها، لم يصمد أمام التفسير الوحيد له وهو البحث عن دور قيادي في وسط لا يتاح لأحد أنْ يقود في أي اتجاه، وربمّا أوصل صعود حركة حماس إلى واجهة الحكم الوضع الفلسطيني برمته إلى انشقاق ليس على مستوى التنظيمات بل على مستوى الوطن بكامله.
لقد دحضت حالة الانقسام والانشقاق على مستوى الحركات الثورية، فكرة أنّ الصراع فيما بينها لا يبدأ إلا بعد تحقيق النصر، فالصراع الفلسطيني – الفلسطيني كان في أوجّه ولم تتحرك القضية الفلسطينية خطوة واحدة على طريق النصر، وربمّا يعود جزء من سبب ذلك إلى أنّ الشعب الفلسطيني يواجه عدوا من طراز خاص، استطاع أنْ يمدّ أذرعه في بعض المفاصل المؤثرة في قدرة الفصائل الفلسطينية على التنفس في أجواء صحية، ولعب على التناقضات وأنزلها من صالوناتها الفكرية إلى شارع المواجهات الميدانية.
العراق : أين موقعه في التجارب العربية والدولية؟
في البداية قد يكون من المهم جدا أنْ نحدد، أنّ مصطلح (الحركة الوطنية العراقية) سوف لن ينصرف إلى الكتل والتيّارات والأحزاب السياسية والدينية والطائفية والعرقية، التي انخرطت في العملية السياسية التي أنشأها الاحتلال الأمريكي عام 2003، وحيثما سيرد هذا المصطلح فإنّه سينصرف إلى القوى التي قاومت الاحتلال وناهضته سواء تلك التي تصدت له بالسلاح أو بالعمل السياسي من قوى منظمّة في أحزاب و تيارات أو قوى هلامية لم تجد لنفسها الوعاء الذي يعبر عنها على نحو دقيق، أو تلك التي ستكون في أي ظرف على استعداد لقطع صلتها بمشروع الاحتلال وعمليته السياسية قطعا بائنا بينونة كبرى، وليس مجرد مناورات للكسب السياسي المؤقت.
وبالمقابل فإنّ أي طرف انسلخ عن خيار المقاومة بالفكر أو بالممارسة وانخرط أو اصطف إلى جانب الاحتلال أو العملية السياسية وفي أي من مؤسساتها، سوف تنسحب عليه المقاييس نفسها التي يتم اعتمادها في التعامل مع القوى الداخلة في العملية السياسية، وتستوي في هذا التوصيف، الأطراف التي شاركت في العملية السياسية ووجدت نفسها وقد دخلت في مأزق سياسي تاريخي، فأرادت أنْ تبحث لنفسها خطوط رجعة أو رد اعتبار، دون قناعة بقطع الارتباط مع ماضيها، فاعتمدت أساليب الضجيج بصوت عال، لما يطرح من قوانين وقرارات، لمجرد أنْ تزيل عن نفسها تاريخا لم يعد بالإمكان التنصل منه أو آثاره المدمّرة التي لحقت بالعراق، ولكنّها تحتفظ بخطوط اتصال ساخنة مع حلفاء الأمس، وهذا النمط من السلوك الاستعراضي ربمّا يكون أكثر خطرا على الحركة الوطنية من أعدائها المكشوفين.
ويمكن إعطاء وصف وطنية أو وطني على التيارات أو الأشخاص ممن تتوفر فيهم الشروط التالية:--
1 – كل تيار أو شخص رفض الاحتلال وما ترتب على العملية السياسية التي جاء بها، وعبّر عن الرفض بالفعل أو القول بما يفيد ذلك الرفض.
2 – كل تيار أو شخص يؤمن بالعراق الواحد غير القابل للقسمة أو التجزئة.
3 - كل تيار يؤمن بأنّ العراق جزء من الأمة العربية، والإسلام دينه الرسمي.
4 – كل تيار أو شخص لم يرتبط بمشروع أجنبي يتعارض أو يتقاطع مع المفاهيم أنفة الذكر.
5 - كل من تاب عمّا ارتكبه من فعل أو قول يتعارض أو يتقاطع مع المفاهيم المذكورة، يمكن أنْ يجد ترحيبا به بين القوى الوطنية.
الواقع الديني والقومي والمذهبي في العراق
يتألف الشعب العراقي من حيث الديانة، بأكثر من 96 % من المسلمين، ومن حيث الانتماء القومي، يشكل العرب ما نسبته 85% من السكان، ولكنّ هذين الرقمين يخفيان وراءهما تاريخا متصلا من العقد التي تخبو حينا لتبرز بقوة أحيانا أخرى.
فحينما نقول إنّ نسبة المسلمين إلى عدد السكان تزيد على 96% فإنّنا سنجد أنّ السكان المسلمين هم سبب العلل السياسية والتخلف الذي عاشه العراق منذ بداية نشوء دولته الحديثة ولم يأت ذلك من جمود في العقيدة الإسلامية أو لأسباب فقهية، بل كان على الدوام لأسباب سياسية، تارة تأخذ طابعا عرقيا مثل ما كان يحصل بشأن الملف الكردي، الذي لم يرتبط بإخفاق الحكومات بقدر ما كان يعكس نوايا لا تستطيع الحركة الكردية المجاهرة بها دفعة واحدة، فكانت تقّسطها على الزمن كي لا تستعدي عليها أبناء الشعب العراقي، وتارة اخرى تأخذ طابعا طائفيا يقتبس شعاراته من تظلمات، بعضها يخفي ارتباطات بأجندات إقليمية، تستغل عواطف مشروعة لتصبها في أهداف غير مشروعة.
أولا:- مكونات الشعب العراقي الدينية
1- المسلمون والذين ينقسمون مذهبيا إلى:-
أ – السنّة، ب– الشيعة، وهناك طوائف أخرى من المسلمين أو المحسوبة عليهم.
وينقسمون من حيث الانتماء القومي إلى عرب وأكراد وتركمان.
2- المسيحيين والذين ينقسمون إلى:-
أ – الأرثدوكس، ب– الكاثوليك، ج– البروتستانت وهي طائفة بدأت تنمو مع نمو النشاط التبشيري للكنيسة البريطانية والأمريكية في بعض مناطق شمال العراق، ويتوزعون على قوميات الكلدو- آشور والأرمن.
3- اليزيدية ويتواجدون في شمال العراق ويتركز ثقلهم في سنجار والشيخان ولهم تواجد في بحزاني وبعشيقة.
4- الصابئة المدائيين والذين يعتبرون أنفسهم أقدم ديانات التوحيد في الأرض.
5 – وهناك ديانات باطنية تجهد نفسها في خطابها المعلن للالتحاق بالدين الإسلامي، ويوجد القليل من اليهود أيضا.
ثانيا:- مكونات الشعب العراقي القومية.
1 – العرب وهم منقسمون بين مسلمين ومسيحيين ويزيدية وصابئة وشبك.
2 - الأكراد وهم منقسمون إلى سورانيين وبهدينانيين وهم من المسلمين السنّة، والأكراد اللوريين (نسبة إلى إقليم لورستان الإيراني وهو إقليم متاخم لحدود العراق الشرقية ويفصل بين إقليمي كردستان والأحواز في إيران) وهم المعروفين بالأكراد الفيلية وهم من الشيعة، ويسعى الأكراد لضم اليزيدية والشبك والكلدو- آشور إليهم من أجل زيادة عددهم وزيادة الرقعة الجغرافية التي يريدون ضمها إلى إقليم (كردستان).
3 – التركمان وهم من المسلمين وغالبيتهم من السنة، والباقي من الشيعة.
4 – الكلدو- آشور وكذلك الأرمن الذين جاءوا إلى العراق بعد هجرتهم من بلادهم بدايات القرن الماضي، وهم مسيحيون منقسمون على ثلاثة مذاهب.
هذا الموزاييك المتنوْع، ليس وحدّه الذي يميّز الواقع الاجتماعي في العراق، فهناك التمايز بين البداوة والحضارة من جهة، والريف والمدينة من جهة أخرى، إضافة إلى تنوع قبلي وعشائري واسع أفقيا وعميق عموديا، وله امتداداته على دول الجوار، ويستوي في التنوع العشائري العرب والأكراد.
وكأنّ هذا كله لم يكن كافيا لعوامل الانقسام الذي عرفه العراق منذ زمن ليس قصيرا، إذ دخل خط التباين وصول الأيدلوجيات الحديثة وتشكيل أحزاب على أساس نظرياتها، ويمكن تقسيم هذه الأيدولوجيات إلى:-
أولا – الحركات الماركسية اللينينية والتي تضم الأحزاب الشيوعية بجميع أجنحتها، وقد عانت هذه الحركات من انقسامات متوالية، ويؤخذ عليها أنّها عانت من جمود فكري واستسلام لقوالب جاهزة كانت تمليها التبعية المطلقة للوطن الشيوعي الأمّ أي الاتحاد السوفيتي إلى الحد كان يقال إنّ الشيوعي يضع المظلة فوق رأسه إذا سقط المطر في موسكو، والذي بعد انهياره تركها عرضة لمواجهة مصير مظلم، فانساق الحزب الشيوعي العراقي العريق بمعاداة الإمبريالية الأمريكية، وراء منطق نفعي حتى وجد نفسه مستقرا في أحضان عدو الأمس الأيدلوجي أو الإمبريالية الأمريكية زعيمة العالم الرأسمالي.
ثانيا – الحركات الدينية وتنقسم إلى:-
أ – الأحزاب والحركات الإسلامية السنيّة، وكانت موزعة الولاء بين مراكزها القيادية في مصر أو السعودية، مثل حركة الإخوان المسلمين، وحزب التحرير والحزب الإسلامي، وقد عاشت هذه الحركات إشكالية الولاء لمهبط الوحي ومركز دولة الرسول صلى الله عليه وسلم ومركز الخلافة الإسلامية فيما بعد، أو الولاء لوطن يراد له أنْ يعود جزءً من دولة إسلامية جديدة، ولم يكن هذا الإشكال سياسيا فقط وإنّما كان إشكالا دينيا لم يحسم حتى اللحظة لأنّه يجد مخرجاته محدودة جدا.
ب – الأحزاب والحركات الإسلامية الشيعية، وكانت على الدوام حركات ترتبط بإيران وتتلقى التوجيهات منها وكذلك تأخذ الدعم منها، وأخذ هذا الارتباط قوة دفع أكبر بعد سقوط حكم شاه إيران ومجيء أية الله الخميني للحكم واعتماد مبدأ ولاية الفقيه كأساس لارتباط محكّم بين تلك الحركات ومركز الولاية في طهران، وبدأ الأمر بالحزب الفاطمي الذي سرعان ما بدّل اسمه إلى حزب الدعوة والذي انشطر إلى عدة أجنحة، ودخل على الخط المجلس الأعلى للثورة الإسلامية والذي بدل اسمه إلى المجلس الإسلامي الأعلى، وهناك أحزاب وحركات وتيارات هلامية مثل التيار الصدري وحزب الله العراق وحزب ثار الله وحزب الفضيلة ومكونات صغيرة ، وكلها نشأت بعد الاحتلال وكلها تتنافس في تعميق العلاقة مع إيران، ويؤمن بعضها أنّ مصلحة إيران تتقدم على مصلحة العراق، كما حصل مع عبد العزيز الحكيم وأثناء رئاسته لمجلس الحكم أنْ طالب بدفع مبلغ 100 مليار دولار لإيران كتعويضات لها عن حرب الثماني سنوات.
ج – الحركات الدينية الكردستانية والتي انساقت وراء برامج شوفينية كردية، وتخلّت عن أطروحتها الإسلامية ذات الطابع الأممي والذي يرفض الفكر القومي وانخرطت بقوة في التحالف الكردستاني الذي يتبنى برنامجا قوميا فيه انحراف عن المنهاج الإسلامي.
ثالثا - الحركات القومية:-
على طول الساحة العراقية وعرضها ومن جميع المكونات القومية، نشأت حركات وأحزاب ذات برامج قومية ومن أجل تسهيل البحث يمكن تقسيم هذه الحركات على أساس الانتماء القومي:-
1 – الحركات القومية العربية، في البداية قد يكون من المناسب تماما القطع بأنّ أيّا من الحركات والتيارات والأحزاب، التي تبنّت الفكر القومي العربي، لم تتبناه من نظرة شوفينية تحاول سحق القوميات الأخرى، أو احتقارها أو حتى مجرد تجاهل حقوقها، ويمكن تلّمس ذلك من خلال تجارب طويلة عاشتها الحركات القومية في بلاد المشرق العربي عموما والعراق بشكل خاص، ففي حكم حزب البعث العربي الاشتراكي، حقق الأكراد ما كانوا لا يحلمون به في أي وقت من أوقات حملهم السلاح ضد الحكومات العراقية المتعاقبة، أو في أي بلد لهم تواجد سكاني فيه.
والحركات القومية العربية التي نشأت في العراق هي:-
أ – حزب الاستقلال:- على الرغم من أنّ حزب الاستقلال كان حزبا وطنيا في إطاره العام، إلا أنّه في واقع الحال كان بمثابة الحاضنة الأولى للرعيل الأول من الرجال الذين انحازوا إلى أحزاب واضحة في تبنيها لبرامج قومية شاملة، فكان حزب الاستقلال محطة انتقالية من مرحلة الانتماء العاطفي للفكر القومي إلى مرحلة النضج في تبني الفكر القومي المؤدلج، وقد ساهم في تعميق الوعي القومي في الساحة العراقية وجود منتديات ثقافية، أسسها المثقفون القوميون المتنورون مثل نادي البعث الذي أسسه المرحوم الدكتور عبد الرحمن البزاز والذي نشط في عقد الندوات الفكرية التي تدعو لفكر قومي عربي جديد، وأصدر النادي العديد من الدراسات والبحوث، مستغلا الهامش المتاح من حرية التعبير للمنتديات شبه الأكاديمية للتحرك في الساحة العراقية كان لها أهمية بالغة في نشر الوعي القومي العربي في مجتمع كان متحفزا لقبول هذه الأفكار تأثرا بما كان سائدا في المشرق العربي، وكذلك أسهمت عودة الطلبة العراقيين الدارسين في سوريا إلى العراق وما حملوه من أفكار قومية في دعم هذا التوجه الجديد، وربمّا كان لتحول تجربة عبد الناصر في مصر نحو الخيار العربي وما صنعته تجربة حرب عام 1956 (العدوان الثلاثي) من نهوض عربي جارف تتوج بقيام الوحدة بين مصر وسوريا وبروز الجمهورية العربية المتحدة كقوة استقطاب قومي هائل، أكبر الأثر في صعود الحركة القومية على حساب الأفكار الاخرى ليس في العراق فحسب، وإنّما في المشرق العربي كله.
ب - حزب البعث العربي الاشتراكي:- لعلّ البعث أول حركة قومية منظّمة عرفتها الساحة العراقية، فالبعث كان يحمل نظرية قومية واضحة المعالم وكان مقره الرئيس في سوريا، ونشأت نواته الأولى في العراق على أيدي الطلبة المتخرجين من الجامعات السورية وبقيت علاقتهم قائمة مع قيادة الحزب في سوريا، ونظرية الحزب القومية تجد مداها الأرحب في الدعوة لإقامة الوحدة بين أقطار الوطن العربي، باعتبارها العودة إلى الحالة الطبيعية عن وضع شاذٍ نشأ عن عهود السيطرة الاستعمارية التي خضع لها الوطن العربي، ويبدو أنّ التركيز على الانتماء القومي للبعث قد أوجد شيئا من الخلط لدى بعض البعثيين وخاصة في مرحلة النشوء الأولى، وظلت تلازمه لوقت ليس بالقصير، في مدى التمسك بالروح الوطنية، إذ اعتقد أولئك بأنّ هناك تصادما حقيقيا بين الوطنية والإيمان بالفكر القومي، والحق أنّ ذلك التصور أدى إلى كثير من الانشقاقات داخل الحزب في مراحل مختلفة من تاريخه وأدت إلى إضعاف دوره على الصعيدين القطري والقومي، وكمثالٍ على أنّ الحزبيين وقعوا في خلط بين الفكر القومي الذي يتبناه الحزب والموقف الوطني المطلوب التمسك به دون تقاطع مع الانتماء القومي، أنّ دورة عربية لكرة القدم أقيمت في بغداد عام 1966، وشاركت فيها سوريا إلى جانب أقطار عربية أخرى، جاءني أحدّ البعثيين وطلب مني الذهاب معه إلى الملعب من أجل تشجيع الفريق السوري ضد الفريق العراقي، كان مبلغ علمه أنّ ذلك يمثل أصدق تعبير عن الولاء للحزب وفكره القومي، هذه الحادثة ليست مثالا عاما وإنمّا اجتهاد شخصي لشاب بعثي متحمس اعتقد أنّها ستجسد مبادئ البعث، على الرغم من أنّ الحزب لم يتدخل في المناسبات الرياضية لا من قريب ولا من بعيد، وعلى الرغم من أنه لم يطرح مفهوما فكريا بهذه الصورة أو يحض عليه، إلا أنّ هذه الواقعة تعكس الخلل التربوي في بناء الولاء للوطن من قبل المواطن العراقي المنتمي لحزب البعث، حتى إذا كان على حساب مسقط رأس الحزب.
ج – حركة القوميين العرب:- هذه الحركة بدأت قومية يمينية متطرفة، واعتبرت نفسها ردا على التوجهات اليسارية لحزب البعث، وارتبطت مع صعود التيار الناصري بأكثر من وشيجة بل أنّ شعارها ارتبط به أيضا وهو الشعار الذي جسد مرحلة التطابق في حقبة معينة من التاريخ العربي، ويقول الشعار (دم حديد نار، وحدة تحرر ثار عبد الناصر يا جبار)، ولكنّ ما أصاب تجربة عبد الناصر من بعض الإخفاقات، كسقوط تجربة الوحدة مع سوريا والمأزق المصري في اليمن، وأخيرا نكسة 5 حزيران عام 1967، ربمّا دفعت بمؤسسي الحركة إلى إعادة صياغة أفكارها على نحو دراماتيكي، وتحولت الحركة من يمين الوسط إلى اليسار المتطرف، وهذا ما أدى إلى سلسلة من الانشقاقات، وتحوَل قادتها التاريخيين في العراق إلى حركات ساهموا هم بتأسيسها أو انضموا إليها بعد التأسيس.
ولعبت القوى المرتبطة بحركة القوميين العرب أو بمجموعة التيارات الناصرية، التي حكمت في العراق بين 18 /11/1963 إلى 16/7/1968 بانحرافات في بناء الشخصية الوطنية وذلك بتصور خاطئ ، أنّ الفكر القومي يعني التفريط بالمصالح الوطنية ، من أجل تأكيد مصداقيته، وتم توقيع اتفاقية ثنائية بين مصر والعراق ، وكمثال على ذلك التفكير الساذج فقد تم افتتاح مركز تجاري عراقي في القاهرة ، وكان يبيع السلع العراقية للمواطن المصري بسعر رمزي بالجنيه المصري الذي كان يساوي حينذاك نصف دينار عراقي، بنفس سعرها بالدينار العراقي مقوّما بسعر متعادل معه، مطروحا منه تكاليف الشحن والتكاليف الأخرى، فعلى سبيل المثال كانت صفيحة السمن النباتي من علامة الراعي أو زبيدة تباع بمبلغ جنيهين و600 مليم وهو السعر المعادل لسعرها في العراق رقميا أي بدينارين و600 فلس، والقرار الذي اتخذ بهذا الخصوص يفتقر إلى الواقعية لأنّه يشير إلى معنى خاطئ في تطبيقات المنهاج القومي.
وقد تفرعت عن حركة القوميين العرب حركات وأحزاب كثيرة منها على الصعيد الرسمي، الإتحاد الاشتراكي العربي، الذي تم الإعلان عن ولادته في تموز 1964، كما تأسس قبل ذلك الحزب العربي الاشتراكي وفيما بعد حزب الوحدة الاشتراكي، والقائمة تطول، ولكنّ رصيد أي من هذه الأحزاب لم يتجاوز قياداتها العليا.
2 – الحركات القومية الكردية، وربمّا بقيت هذه الأحزاب على طابعها العائلي والعشائري حتى الوقت الحاضر، ولعلّ أقدمها في النشوء هو الديمقراطي الكردستاني، الذي لم يكن بإمكان المراقب التعرف على هوية ديمقراطية له، فالحزب منذ نشوئه ظل أسير قوالب جامدة في حياته الداخلية، ورغم وجود أعضاء في المكتب السياسي للحزب، إلا أنّ الحقيقة القيادية بقيت داخل عائلة البرزاني ولم يتمكن أي من القيادات التي عملت بمعية الملا مصطفى، قبل أنْ ير أبناؤه النور، من التقدم لأكثر من موقع التابع لعائلة الملا من بعده، وربمّا كان ذلك واحدا من أسباب خروج جلال الطالباني على الملا مصطفى، ووصول العلاقة فيما بينهما إلى حد التصفيات التي سجل كثير منها إمّا ضد مجهول أو ضد الحكومة، واليوم توجد في الساحة الكردية أحزاب كثيرة أهمها الاتحاد الوطني الكردستاني وهو حزب جلال الطالباني نفسه، والذي حاول أنْ يصوغ لنفسه نظرية اجتماعية قريبة من الفكر الاشتراكي، ولكنّه في النتيجة سقط في مستنقع السيطرة العائلية لمؤسسه وظل أسير أطروحة قومية شوفينية، وهناك أحزاب صغيرة تعمل تحت عباءة رضا العائلتين المتنفذتين، البرزاني والطالباني ولا تستطيع الخروج على طاعتهما، ويمكن القطع بأنّ هذين الحزبين في برامجهما المعلنة والخفية على حد سواء يتقاطعان مع وحدة العراق، ويسعيان وقتما تسمح به الظروف المحلية والإقليمية والدولية للانفصال عن العراق، ولا يمكن افتراض أية درجة من النظرة الوطنية لهما، فهما يحملان أجندة تتجاوز حدود العراق إلى دولة كردستان الكبرى، وكي لا نبخس الأكراد حقهم فإنّ هذا لا يمثل خيار الشعب الكردي كله، فقد نشأت أحزاب كردية عراقية تؤمن أنّ مصير الأكراد مرتبط مع مصير العراق وأنّ أي خيار آخر سيجلب لهم المزيد من الويلات، وعلى العموم فهذه الأحزاب كانت عرضة للتنكيل بعناصرها وللافتئات على قياداتها مما ترك صوتها خافتا على الصعيد الخارجي، وأداؤها ضعيفا في الشارع الكردي.
3 – الحركات القومية التركمانية:- حتى وقت قريب لم يستطع التركمان التعامل مع الهوية الوطنية العراقية بما يؤّمن دمجا إراديا لهم في المجتمع العراقي، فقد ظلت شرائح لا يستهان بها منهم ولزمن ليس بالقصير تتطلع إلى تركيا وكأنّه الوطن الأمّ، ونشأت الحركة الطورانية لتجسد ذلك الترابط مع تركيا، ومع الزمن برزت على الساحة حركات واقعية النظرة أرادت أنْ تتعامل مع الظرف كما هو وليس كما ينبغي أنْ يكون، ومع ذلك فإنّ التركمان وحتى وقت قريب كانوا يفتقرون إلى روح المواطنة العراقية ويرنون بأبصارهم ومشاعرهم نحو تركيا، وربمّا وجدوا أخيرا أنّ مصلحتهم مع وحدة العراق نتيجة تعسف الحركة الكردية ضدهم وضد أراضيهم، فمالوا إلى العرب باعتبارهم ضمانتهم ضد التهميش والإقصاء والترحيل، وإنْ كانت أنظارهم تتطلع إلى تركيا باعتبارها الضامن لحقوقهم.
4 – الحركات القومية السريانية (الكلدو– آشور)، على الرغم من أنّ الكلدو- آشور لا يشكلون كل الوجود المسيحي في العراق، فإنّهم سجلوا لأنفسهم موقع الريادة في الحراك السياسي المدعوم بالقوة للحصول على ما أسموْه بحقوقهم القومية في تاريخ العراق الحديث، خلال ما يسمى بثورة الآثوريين بداية عقد الثلاثينات من القرن الماضي والتي استدعت تدخلا من جانب القوات المسلحة لقمع تحركهم، وفي عام 1959 طرح الغوغاء في بعض المدن التي تسكنها هذه الأقلية شعارات مستهجنة من قبيل(تلكيف نالت استقلالها .... دين .... باطل إلخ)، ومنذ ذلك الوقت لم تبرز هذه القضية إلى سطح الأحداث إلا بعد الاحتلال الذي حرك كل القضايا النائمة الشرعية منها وغير الشرعية.
هذه هي الخارطة السياسية الغارقة بأسباب التشظّي والتي شهدت في مراحل مختلفة من القرن الماضي، تسخينا لافتا للأجواء السياسية نتيجة ما رافق الحركة الكردية من استنزاف لموارد العراق البشرية والمادية ونتيجة إمساك الورقة الكردية بأيدي كثير من اللاعبين الإقليميين والدوليين، كما أنّ الظروف التي عاشها العراق في علاقاته مع إيران ومنذ قيام الدولة العراقية الحديثة استنادا إلى موروث تاريخي تحمله الجارة الشرقية للعراق عن أسس علاقاتها معه، فقد انعكست تطورات العلاقة بين بغداد وطهران، سلبا أو إيجابا على قوى كانت منحازة بالفطرة إلى جانب إيران.
من المعروف أنّ المعارضة في معظم دول العالم حينما تختلف مع حكوماتها ولما تضيق عليها سبل التحرك تحاول أن تجد لها ملاذا آمنا في بلدان اخرى ومن هناك تمارس عملها السياسي ضد نظم الحكم في بلدها، إلا في العراق فإنّه وعلى كل المستويات يشكل الاستثناء عن كل القواعد المعروفة، فقد لعب التوتر الذي شاب علاقات العراق مع إيران وخاصة منذ 1968 ردود فعل مضادة لدى أطراف داخلية يتحكم الخيار الطائفي في سلوكها السياسي، فنقلها تعاطفها مع إيران من خانة المعارضة الصامتة إلى المعارضة العلنية وبصوت عال، فانتقلت كأفراد ومن دون إطار منظم إلى إيران، وهناك تم ترتيب الهياكل التنظيمية لها، وأخذ هذا النمط من (المعارضة) بعدا لافتا بعد مجيء الخميني إلى الحكم مما فاقم من أسباب الفتنة، ثم كانت الحرب إحدى أهم إفرازات التدخل الإيراني في العراق، فاتخذ كل من كان يتعاطف مع الأطروحة الإيرانية موقفا مضادا لحكم حزب البعث العربي الاشتراكي، فلجأ الكثيرون إلى إيران وهناك تم تشكيل المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق في 17 تشرين الثاني 1982 وبإشراف مباشر من مكتب الخميني، وبرئاسة أحد الإيرانيين المقربين منه وهو محمود هاشمي شاهرودي رئيس مجلس القضاء الأعلى في إيران، هذا كله يدعونا وبإلحاح إلى طرح السؤال التالي ... ما هي القضية الوطنية التي يتم الحوار عليها حتى يحصل التقارب بين المجلس الأعلى (على سبيل المثال لا الحصر) والقوى الوطنية الاخرى طالما أنّه يتحرك بقوائم إيرانية وينظر بعيون إيرانية ويسمع بأذان إيرانية ويفكر في نهاية المطاف بالطريقة الإيرانية وعلى أساس مصالحها؟ وماذا يمكن أنْ يقدم من برامج لهذه الكتلة أو أية كتلة مرتبطة بأجندات دول اخرى كي يصار إلى لقاء عند منتصف الطريق؟
ما كان يحصل من خلافات لم يكن بين موقفين وطنيين مختلفين على تفسيرات سياسية متباينة، وإنّما هو انحياز أطراف محلية إلى جانب دولة خارجية، أي بعبارة اخرى إنّهم معارضون بلا قضية ويعادون عندما تعادي إيران، فكيف يمكن أنْ تعالج مثل هذه الملفات المعقدة؟ هل علينا إرضاء إيران كي يصار إلى فتح باب التقارب مع الكتل الشيعية المؤمنة بولاية الفقيه؟
في ربيع 1991، أوجدت هذه القوى مناخا مناسبا لبروز الطائفية كواحد من أخطر الأمراض التي تنخر بالمجتمع، لقد أصبحت الطائفية رقما في المعادلة السياسية الجديدة لم يكن بالإمكان تجاوزها إلا ببذل جهود استثنائية، فبمقابل البناء الوطني الذي تريده القوى الوطنية، كان هناك الجهد الإيراني الذي لم يكن يتحرك من فراغ، بل يمتلك أدوات وقوى تم تشكيلها داخل إيران وبدعم منها، كالمجلس الأعلى والذي اعتمد على الأسرى الساقطين، فنقلوا ما يحملونه من أدران حقبة الأسر المريرة ليجدوا لها الوعاء الذي يفرغونه فيه، وتضافرت جهود دول كبرى ودول إقليمية اخرى لتطرق على هذا الجدار، ومن اللافت أنّ الوصلات الإعلامية المرسلة للعراقيين كانت تنحت مصطلحات من قبيل حقوق الأقلية الشيعية وحقوق الأقلية السنّية وحقوق الأقلية الكردية ولم يعرف أحد من هي الأكثرية إذن، فحققت تلك السياسة معظم أهدافها قبل الاحتلال، والتي تفجّرت بعد الاحتلال فوجدت في قوات الاحتلال العسكري مادة الإستقواء الأساسية على القوى المناهضة للاحتلال، متجهّزة بسلاح الطائفية ٌلإقصاء وجرف كل من يوقف في وجهها، وللمضي قدما في خطط تشطير المجتمع العراقي وتفتيته إلى مجتمعات متصارعة على أسس عرقية ودينية وطائفية، ووجدت كل القوى في الخطاب السياسي والإعلامي الذي كانت القاعدة تطرحه، مادة التشويق المثالية لبرامجها التي كانت تخطط بدقة وعناية في مراكز صنع القرار الفاعل في الساحة العراقية، في واشنطن ولندن وطهران، والتهبت الساحة العراقية بحروب بلا قضية، وخاصة بعد تفجير القبة الذهبية في سامراء في شباط 2006، وكان للتهدئة التحريضية التي مارستها مرجعية على السيستاني أقوى تأثير في النتائج العكسية التي كانت مطلوبة أصلا، من رسالة السيستاني والتي جاء فيها نص في ظاهره يدعو إلى التهدئة إذ دعا إلى عدم الرد على العملية باستهداف مساجد أهل السنّة، لكنّه هو الذي فجّر ردود الفعل حينما لم تتوقف ردود الفعل على إحراق مساجد أهل السنّة فقط وإنما إحراق المصلين داخلها، وفتحت جروحا غائرة وتمت تصفية عدة مئات من الآلاف من أبناء العراق، وكانت حقيقة الأمر تتركز على الانتصار في معركة بغداد، فمن المعروف أنّ مشاركة التيار الصدري في العملية السياسية بشكل علني بعد خسارته لمواقعه في معركة النجف عام 2004، وخسارته لنفوذ سياسي وديني كان يظن أنّه محسوم له في المزارات، كانت تقتضي عقد صفقة سياسية من نوع مبتكر مع زعيمه مقتدى الصدر، الملتحف بعباءة نفوذ أبيه، وغير المؤهل للعب أدوار سياسية كبيرة الأعداء فيها من داخل البيت الشيعي أكثر وأقوى مما من الطائفة الأخرى.
كانت معركة بغداد تقضي بمقايضة التيار الصدري عن نفوذ النجف، بهدفٍ أكثر بريقا وهو العاصمة بغداد، وما يحيط بها من مناطق حساسة مثل سامراء والكاظمية وما فيهما من مراقد وتأثير روحي مع التأثير السياسي لبغداد، كما تضمنت الخطة إعلان إقليم تابع للتيار الصدري يضم إضافة إلى بغداد كلا من محافظات ديالى وواسط وبابل، بكل ما تحتويه أطراف بغداد من ثقل سكاني سنّي، كان على التيار الصدري أنْ يكسب المعركة بنفسه كي يستحق جائزتها الثمينة ، فلم يكد تفجير سامراء يقع إلا وكانت قطعان من آلاف الرعاع ينزلون إلى الشارع ويقتلون على الهوية وعلى الاسم، وتم تسجيل براءة أول مجزرة في تاريخ العراق منذ عهد هولاكو باسم التيار الصدري، وربمّا تكون جهات كثيرة قد خططت للعملية وساهمت بتنفيذ بعض صفحاتها كفيلق بدر، من أجل إقامة حاجز نفسي شاهق من الجماجم والدم بين التيار الصدري وأصدقاء الأمس، وهذا ما تحقق فعلا .
إذن على من يريد التصدي لمهمة رتق الفتوق في النسيج العراقي، أنْ يتناول بالدرس هذه الحقائق كي تأتي الحلول قابلة للتحقيق على الأرض، وينبغي أولا إعادة صياغة لمفهوم الوطنية العراقية، وجعل العراق حالة تسمو فوق كل الانتماءات السياسية والفكرية، دون أنْ تتقاطع معها، فلكل حزب أو تيار أنْ يختار الأيدلوجيا شرط أنْ توظف لمصلحة العراق لا أنْ يوظف العراق لصالح هذه الايدلوجيا أو تلك.
ولن يكتب لأي جهد مهما كان نزيها وصادقا، أنْ يحقق شيئا من أهدافه ما لم يتم تشخيص الظروف السلبية التي أوشكت أنْ تجر العراق إلى حرب أهلية قد يوم انطلاقها من دون تحديد ساعة الصفر، ولكنّ أحدا لن يستطيع التنبؤ متى تضع أوزارها، لكنّ النزاهة والصدق لن يتحققا، وفي حال تحققهما لن يقطعا خطوة واحدة على طريق بناء عراق جديد، فقد تركت ظروف العراق منذ الاحتلال حتى الآن جروحا عميقة في الوجدان الوطني وخاصة لدى أولئك الذين كانوا ضحية لجرائم أطراف كانت ولا تزال جزء فاعلا في العملية السياسية حتى وفي أكثر الأوقات تنديدا بها، ولذا فإنّ ضمان عدم تكرار خرق الخطوط الحمر لحقوق كل القوى السياسية الفاعلة في المجتمع العراقي، يوجب أنْ يأخذ كل الذين توضأوا بدم العراقيين وانتهكوا حرماتهم الفردية والجماعية، جزاءهم ويعتذروا عمّا ارتكبوه ويتبرأوا من العملية السياسية، وإلا فإنّ كل المساعي ستبقى تدور في مكانها، ثم أنّ وضع فيتو على قوى وطنية مثل البعث من قبل أطراف مثل التيار الصدري، سيبدو مفارقة كبيرة في طريق من يدعي السعي لتوحيد طاقات العراقيين في خدمة مشروع العراق الواحد المتحرر من كل أشكال التبعية سواء كانت لأطراف دولية أو إقليمية.
هل هناك رؤية واضحة للوصول إلى الهدف الاستراتيجي؟
إذا كان استرداد استقلال العراق وسيادته، هدفا مركزيا تلتقي عنده كل القوى المناهضة للاحتلال، فهل هناك رؤية واضحة المعالم للوصول إلى هذا الهدف؟
وهل أنّ حالة التشرذم التي تعاني منها أطراف سياسية محسوبة كأرقام على معادلة الفعل المناهض للاحتلال ، يمكن أنْ تكون أداة صالحة لتحقيق هذا الهدف؟
وربمّا يبرز سؤال أهم من السؤالين السابقين، وهو أيهما أصلح للوصول إلى الهدف المؤشر وبأقل الخسائر والتضحيات وأقصر وقت، العمل المنفرد لكل طرف من القوى المناهضة حقا للاحتلال، وخاصة الفاعلة منها على الساحة العراقية، سواء بثقل ميداني على الأرض أو معنوي ملموس؟ وبعبارة أخرى، هل أنّ سعي كل فريق ومهما بلغت إمكاناته وقدراته، لإنجاز المهمات الوطنية لوحده، وحتى برصف أرقام لكيانات أو دكاكين لا وجود لها على أرض الواقع أجدى؟ أم أنّ سعي الأطراف الكبيرة التي تلتقي عند هدف التحرير للوصول إلى برنامج سياسي واضح المعالم والالتزامات المتقابلة أكثر قدرة على إنجاز المهمات الوطنية دون تفريط بشيء منها؟
إنّ من يتصدى لدراسة واقع الحركات الوطنية المناهضة للاحتلال، لابدّ أنْ يصاب بصدمة وخيبة أمل كبيرتين، جرّاء التشرذم المرّوع الذي تعاني منه وهذا العدد الكبير للجبهات والكتل والكيانات والحركات والدكاكين التي تتناسل على نحو مثير، وفي لافتاتها تلتقي كلها عند مسمى واحد وهو التحرير، مما استعصى على الإلمام بأرقامها الحقيقية، في وقت هي أحوج ما تكون فيه إلى رصّ صفوفها وتوحيد أدوات الفعل المقاوم على الأرض، وتوحيد الخطاب السياسي على صعيد المواقع القيادية المتقدمة، تأجيل التناقض الثانوي إلى ما بعد التحرير، فالعدو من الشراسة ما يسمح لأعدائه بفرصة استرداد الأنفاس، ويمتلك من الأدوات والعملاء ما لا يسمح بأية ثغرة انقسام يمكن أنْ ينفذ منها، على الرغم من أنّ الكتل تلك ومن دون استثناء تشكو من ظاهرة التشرذم، وتعي جيدا أنّ هدف التحرير لا يمكن إنجازه من قبل طرف واحد مهما أوتي من قوة ميدانية وسياسية، فوحدة أداة المقاومة وتجميع طاقاتها هما أسرع الطرق المؤدية لتحقيق هدف التحرير الذي هو محور إجماع لكل القوى المناهضة للاحتلال.
لكنّ اللافت للنظر وعلى نحو مؤسف، أنّ كل الجبهات والكتل، تستعرض قوتها عن طريق درج أسماء دكاكين لا تمتلك على الأرض شيئا وربمّا لا تزيد مساحة انتشارها على أفراد قيادتها الذين لا يزيدون على أصابع اليد الواحدة، ويبدو أنّ هذا التنافس المَرَضي قد وجد له أرضية خصبة لدى جميع الكيانات فطفقت في استعراض قوتها بإضافة أرقام وأسماء لا وجود لها إلا في مخيلة مؤسسيها.
إنّ مما لاشك فيه أبدا أنّ القيادات وحدها هي التي تتحمل مسؤولية استمرار هذا الوضع الشاذ، وهي وحدها التي ستواجه حكم التاريخ فيما لو تأخر قيام الجبهة العريضة التي تضم تحت جناحيها كل القوى الحقيقية المناهضة للاحتلال والتي لها ثقل على الأرض، فالمواجهة مما لا يحتمل أي تأخير على طريق هذا الهدف.
فإذا كانت هذه المعادلة هي الخيار الوحيد الذي يحقق للعراق استقلاله وسيادته ويعيد له دوره العربي والإقليمي، فهل بالإمكان الوصول إلى صيغة تنسيقية تتطور مع الزمن على طريق توحيد كل الطاقات؟ ذلك يتطلب البدء بسلسة من الخطوات الجدية والنزيهة والصادقة وكما يلي:-
1 – أنْ يتنازل كل طرف للطرف أو الأطراف الاخرى عمّا لا يعتبره تنازلا يمس جوهر مبادئه الأساسية، ويمكن الابتداء بالقضايا التفصيلية وصولا إلى القضايا الكبرى التي تلتقي عندها المصالح الوطنية التي عليها إجماع.
2 – إشاعة ثقافة التسامح ومبدأ الحوار، والقبول بالتنّوع الفكري والتعددية، فذلك وحده الذي يوجد المناخ الصحي لقيام تحالف قوي بين قوى لها حضورها الحقيقي على الساحة وليس مجرد أرقام يتم اجترارها اعتقادا أنّ وجاهة الكتلة ستكبر كلما حشدّت حول نفسها أسماء مجردة من الخلفية، ومع الوقت سيعرف كل طرف قوته الحقيقية وقوة الأطراف الأخرى، وحينها سيتصرف على أساس الحقائق الميدانية.
3 – من الحكمة والمصلحة والواجب الوطني، البحث عن مشتركات وتفعيلها في برامج عمل محددة، ونبذ حالة التشرذم والتشظي والانقسام والانشقاقات، التي طبعت المرحلة السابقة، لأنّها إنْ لم تنجح في إيجاد مقاربة مشتركة لأزمة الخيار الوطني، فقد يبدو ذلك أزمة قيادة أو قيادات لا تستطيع التسامي فوق خلافات ليست مبدأية، أو أنّ هناك بعض الجهات التي ما كانت لتتوقع احتلال أي موقع في الصفوف الخلفية في ظل ظروف عاديّة، ولكنّها وجدت نفسها نتيجة الظرف الاستثنائي الناجم عن الاحتلال وقد تبوأت مواقع متقدمة، لم تشأ تحت أي ظرف التخلي عنها.
4 – إلغاء مبدأ الخطوط الحمر بين أطراف الحركة الوطنية الحقيقية، وفتح خطوط الحوار الجدي فيما بينها من دون اشتراطات مسبقة، فإذا كنّا نرفض الإقصاء والتهميش، فلا بدّ أنْ نبدأ بأنفسنا تحت خيمة القوى الوطنية المناهضة للاحتلال، وإذا كان من الممكن للقوى الكبيرة أنْ تطرح في مرحلة من المراحل فكرة إقصاء هذا الظرف أو ذاك من القوى الأصغر منها على وفق تصورها هي عن حجمها وحجم الآخرين، فإنّه من العبث المعيب حقا أنْ تضع القوى الصغيرة (الفيتو) على القوى الأكبر منها، والأكثر دقة في هذا الخصوص أنّ الكتل غير الداخلة في العملية السياسية ومهما صغر حجمها على وفق تصور الآخرين عن ذلك الحجم، لها الحق في وضع الفيتو على الكتل المشاركة في العملية السياسية مهما كبر حجمها أو اتسعت قاعدتها الشعبية، في حين أنّ الكتلة الداخلة في العملية السياسة والتي تبرأت منها لاحقا، ومهما كانت قاعدتها الشعبية المفترضة واسعة، فليس بوسعها أنْ تضع(الفيتو)، على أية كتلة لم تتلوث بأية صفحة من صفحات العملية السياسية، ومهما كان حجمها، إذ أنّ الكثير من القوى تمتلك تأثيرا ودورا أكبر من قوتها التنظيمية.
5 – إنّ استمرار العجز في إيجاد البديل القادر على خوض معركة التحرير بصفحتيها العسكرية والسياسية، سيعني القضم التدريجي من جرف القوى الوطنية لصالح مشروع الاحتلال وعمليته السياسية، واللذين يمتلكان أدوات السلطة العسكرية والأمنية، وإغراءاتها المادية ، وهذا ما يهدد بخرق ميداني لفصائل القوى المقاومة كما حصل مع المنظمات الفلسطينية نتيجة طول أمد الصراع، خاصة وأنّ تجربة الحركات السياسية في العراق تؤشر منذ البداية استعدادا لذلك، لاسيما وأنّها (الأحزاب) كانت مؤدلجة وتغلّب أفكارها وانتماءاتها العقائدية على المبادئ الوطنية، وربمّا كانت تفتقر إلى البوصلة الوطنية.
6 – لا بدّ من تحديد موقف واضح ودون لبس من الأطراف التي ارتكبت جريمة الارتباط مع المحتل ومشروعه، سواء تلك التي فعلت ذلك قبل الاحتلال، أو تلك التي انساقت وراء تحليلات خاطئة أو أوهام القدرة على القيام بدور ما تحت مظلة العملية السياسية التي جاء بها المحتلون، وكذلك لا بدّ من تحديد موقف من القوى التي ارتكبت أعمالا ذات طابع جنائي ضد أبناء الشعب مستغلة المظلة التي يوفرها الاحتلال، إنّ عدم التوصل إلى قناعة مشتركة بشأن هذا الملف سيؤدي إلى بروز عوامل لخلافات ينبغي سد منافذها قبل وقوعها.
7 – من الحقائق الثابتة أنّ المقاومة والسلطة لا يمكن أنْ يجتمعا في بلد واحد وزمن واحد، وهذا الخطأ الإستراتيجي الذي وقعت فيه حماس عندما انساقت وراء آليات السلطة وحافظت على شعارها المقاوم فلا هي تمكنت من إنجاز مهمات السلطة على النحو الذي يرضي المواطن، ولا هي حافظت على دورها المقاوم، وحاولت أطراف سياسية في العراق كثيرة أنْ تركب قطار العملية السياسية متلبسة بنفس الحجج، وعندما وصلت هذه العملية إلى طريق مسدود، أو على الأقل وصلت أفكار هذه القوى عمّا يمكن أنْ تحققه من نتائج إلى نهاية الطريق من دون الحصول على أي من مغانمها، أخذت تبحث عن خطوط للتراجع والبحث عن تحسينات لشروط مشاركتها في العملية السياسية، من دون أنْ تقطع بموقف حاسم من هذه العملية، فوجدت في بعض المواقف المعلنة داخل مجلس النواب وكأنّها البديل النهائي عن الانسلاخ عن مشروع الاحتلال الذي تمثله العملية السياسية، وهي تحاول مدّ الجسور مع أطراف الحركة الوطنية مع احتفاظها بارتباطاتها القديمة، فكيف يتم التعامل معها؟ وهل هي قوى مناهضة للاحتلال حقا؟ وهل يكفي التصدي للاتفاقية الأمنية الأمريكية داخل البرلمان للتدليل على مصداقية الطلاق مع العملية السياسية؟
إنّ الانتقال من خندق العملية السياسية إلى الخندق المضاد يمثل الحد الأدنى المطلوب منها، فالانسحاب من العملية السياسية والتخلي عن مكاسبها المادية أو تحويل جزء منها لصالح العمل المقاوم، هو المدخل الوحيد لقبول أي طرف يريد التبرؤ من خطايا ماضيه القريب، وانتهاج خط جديد يؤمن بالفعل المقاوم بصفحتيه ، العسكرية والسياسية، ولا يمكن الزعم بالإيمان بالمقاومة السياسية ومن ثم التصدي للمقاومة العسكرية بهدف تدمير مرتكزاتها.
8 – إنّ الإرادة السياسية باتجاه التوصل إلى قرارات من النوع الصعب والتاريخي، هي الخيار الوحيد القادر على إحداث نقلة نوعية في أنماط العمل السياسي والميداني، وبغياب هذه الإرادة فإنّ التقلب بين المذاهب السياسية ذات الطابع المهادن، فالارتقاء إلى مستوى ما حققته المقاومة المسلحة من إنجازات، يتطلب قدرا عاليا من التفاعل مع المستجدات وعدم الخضوع لقالب جاهز وجامد، وهذا لن يتحقق ما تمتلك هذه القوة أو تلك إرادة سياسية كاملة لا تؤثر فيها صفقات العملية السياسية أو صفقات الجهد المبذول من طرف الاحتلال لاختراق القوى الوطنية.
ربمّا تسهم هذه الأفكار في رسم صورة ما، تصلح كمدخل مناسب في الجهد الوطني المطلوب لمواجهة الاحتلال وعمليته السياسية، من دون أية مزاعم بأنّها أفضل ما يمكن أنْ يقدم، ولكنّها تبقى تصور للبحث في حال اغنائه بأفكار المعنيين قد يصبح أفضل المتاح والله من وراء القصد.
دمشق 1 / 1 / 2009
* مستشار المركز العراقي للدراسات الإستراتيجية
وسوم: العدد 665