الوظيفة الجديدة لجنرالات المقاهي!
كان يُطلق عليهم في السابق «جنرالات المقاهي»، وهو اصطلاح يشمل اللواءات المتقاعدين، أو الذين يستهويهم رسم خطط الحروب بعيداً عن «خط النار» من المدنيين، الذين شاهدوا الحروب «فيديو»، ورأوا المعارك الحربية، بالاستماع إلى البرنامج الإذاعي القديم «كلنا جنود»، لا يختلفون في ذلك عن «عبد الفتاح السيسي»؛ الذي لم يشارك ولو في حرب الناموس!
تختلف تقاليد الشرطة، عن التقاليد في الجيش، فالمتقاعد الأخير تظل له مكانة لدى تلاميذه وزملائه الذين لم يتقاعدوا، في حين أن ضابط البوليس المتقاعد، يفقد كثيراً من مكانته عند التعامل مع الأماكن الشرطية، ولو كان من يتعامل معه برتبة صغيرة وفي بداية عمله الشرطي، وهذا يفسر سبب تدافع الضباط السابقين، على عضوية البرلمان، ومنهم من لا ينتظر حتى يحال للمعاش، وإنما يحصل على إجازة من الخدمة لخوض الانتخابات النيابية، حتى لا يكون في حكم «خيل الحكومة»، ومن المعلوم أن خيل الشرطة يجري الاستغناء عنها بعد مرحلة عمرية معينة بإطلاق النار عليها، مهما كانت عظمة سوابقها في الخدمة، وهناك مسلسل تلفزيوني قديم، عرض محنة الشرطي الذي ارتبط بأحد الخيول فهرب به، عندما حانت ساعة الاستغناء عن خدماته بإطلاق الرصاص عليه!
ولأن «الحاجة أم الاختراع»، فقد وجد عدد من الضباط المتقاعدين، في الانقلاب العسكري فرصة، للاستمرار في «جوار السلطة»، بالظهور في البرامج التلفزيونية، تحت مسمى «خبير أمني»، ليدافعوا عن الانقلاب، وعن ممارسات البوليس، ويكونوا لسان وزارة الداخلية التي تبطش به في هذه البرامج، وإذا كانت الدولة الأمنية التي عادت مع انقلاب العسكر في 3 يوليو / تموز 2013، بدأت بالاستعانة بالمدنيين، من كتاب وصحافيين، فإن هؤلاء ليسوا جديرين بالمرحلة الجديدة، التي صار فيها اللعب على المكشوف، وأصبح فيها التطاول على «ثورة يناير»، من حسن وطنية المرء، بل وأصبح أركان النظام القديم يجري الحديث عنهم باحترام ليس قائماً لشهداء الثورة، فكان لابد من الاستعانة بالجنرالات في برامج «التوك شو» ليعبروا عن المرحلة، حتى أصبح من «المقرر الدراسي» في برنامج «وائل الأبرشي» على قناة «دريم» هو وجود جنرال متقاعد أو أكثر في كل حلقة، لعل الحلقة الوحيدة من البرنامج التي لم يشارك فيها أي من الجنرالات المتقاعدين، هي تلك التي كانت لمناقشة ما جرى في يوم انتفاضة الصحافيين، إذ حضر ثلاثة من أعضاء مجلس النقابة، ولم يشارك أحد الجنرالات كما هي العادة.
الجهل النشط
في البداية كنا نظن أن استضافة الجنرالات السابقين، مجرد اجتهاد من قبل القائمين على هذه البرامج، ليس فقط للدفاع عن وجهة نظر الانقلاب، ولكن لمزيد من الإثارة، عندما يكشف القوم عن جهلهم النشط، ويتعاملون مع مناظريهم كما لو كانوا في تحقيق في أحد أقسام الشرطة، إلى أن كشفت خطة وزارة الداخلية المسربة في أزمة نقابة الصحافيين أنهم يستدعون لأداء مهمة رسمية، من قبل الوزارة، وهذه الخطة قامت على عملية تشويه الصحافيين وعدد من أعضاء مجلس النقابة، ومنفذ الخطة اللواءات السابقون، لنقف على كيف تم التغاضي عن فكرة تقديم هؤلاء باللقب العسكري، ومؤكد أن جنرالات الجيش المتقاعدين، الذين يشيعون الفكاهة في سماء المنطقة عندما يحلون ضيوفا، إنما هم مكلفون بمهمة رسمية، ليس لإشاعة جو المرح، ولكن للذود عن حياض سلطة الانقلاب.
وعندما نشاهد القوم يتكلمون، فلا بد أن يستقر في وجداننا ما يقال شعبياً من أن مصر «محمية ببركة أولياء الله الصالحين»، فكيف لا نؤمن بهذا عندما يعلن الخبير الاستراتيجي والعسكري، أن «الرباعية التونسية»، «واحدة ست مخلصة لبلدها» فاستحقت لهذا أن تفوز بجائزة نوبل، وهو نفسه القائل بأن «سد النهضة» سينهار من تلقاء نفسه، وزميله صاحب اختراع مجابهة ندرة المياه المحتملة في مصر قريبا بعد تنازل السيسي عن حصتها التاريخية من المياه، يمكن بزراعة أشجار الموز، وما قاله خبير آخر لا يقل خبرة في المجال العسكري الاستراتيجي من أن المرأة المصرية مثقفة، والدليل على هذا أنها توصلت لاختراع «المسقعة»، وهي أكلة بسيطة تمثل خليطاً من الفلفل، والباذنجان، والطماطم، والثوم، توضع على النار مع الزيت، فتنتج المسقعة، وإذا كانت هذه الأكلة لا تمثل اختراعاً، فإن الاختراع يتمثل في ما قاله سيادة الجنرال أركان حرب، من أسباب خلعه صفة الثقافة على المرأة المصرية، أنها اخترعت أكلة البيض بالحمص، وهي أكلة لم أر مصريا يعرفها ولم يتوصل لها العلم الحديث، يبدو أنها أكلة خبأتها المصرية عن «الأشرار» الذين يؤرقون عبد الفتاح السيسي ويدفعونه لعدم الإعلان عن المشروعات القومية خوفاً منهم، وصاروا يمثلون هاجساً له، فصار يذكرهم في كل خطاب، حتى كدت أعتقد أن «الأشرار» هو اللقب الجديد للأسياد!
جن لما يركبك
«الأسياد» هم فصيلة من الجن والعفاريت، تخصصت في ركوب البني أدمين، فصار يقال شعبياً عن ذكر الجن والعفاريت «الأسياد»، ومن هنا جاءت عبارة «دستور يا أسيادنا»، فقبل الدخول لدورة المياه يقال: «دستور يا أسيادنا»، وقبل التخلص من ماء شديد السخونة تقال العبارة نفسها، فينتبه «الأسياد» فيغادروا قبل أن يصيبهم مكروه بهذا الدخول المفاجئ للخلاء، أو السكب المفاجئ للماء الضار، ولا تسألني عن المقصود بالدستور هنا، أو لماذا يقال عند مخاطبة «الأسياد» وتنبيههم بصنعة لطافة: «دستور»؟ فحقيقة لا أعرف. ويذكر الشيخ الغزالي أن هناك من جاء له يشكو من أن عفريتاً يركبه فسأله بطريقته الساخرة: ولماذا لم تركبه أنت؟ ومن الأدعية الشعبية: «جن لما يركبك»!.
الحاجة لم تدفع فقط لتجاهل استخدام الرتبة العسكرية أو الشرطية إعلامياً لأناس على التقاعد، وهو أمر كان يقلق المؤسسة العسكرية قبل حالة الاحتياج هذه، وإنما صار يجري تجاهل منح هؤلاء رتبا لم ينالوها في خدمتهم، فهناك «اللواء» محمود زاهر، الذي خرج من الخدمة برتبة رائد وقيل إن سامح سيف اليزل، يد السيسي في المشهد السياسي إلى وفاته لم يحصل على رتبة اللواء أبداً.
وفي أجواء كهذه يصبح من الطبيعي أن ضابط الشرطة السابق «فاروق المقرحي»، هو نجم النجوم، ويظهر على قنوات التلفزيون المصري (الرسمية والخاصة) أكثر من عادل إمام، ويتعمد في تعامله مع مناظريه أن يرفع صوته ويجهر بالقول، فليس عنده بضاعة غير هذا، وهو الذي كان في السابق تتم استضافته لتعرية فساد النظام البائد، بحكم كونه ضابطا سابقا في مباحث الأموال، فإذا به يتكلم داخل فمه فلا معلومة ولا تحليل، ولا ندري لماذا كان يقبل الظهور، في قضايا الفساد وهو لا يقول شيئاً، ومن الواضح أنه لم تكن هناك معلومات يمكن له أن يستخدمها ليعزز من مبرر ظهوره!
تبادل المنافع
لا شك أن احتياج الدولة العسكرية، للجنرالات المتقاعدين جعل العلاقة بينهم اقرب لتبادل المنافع فهي تمكنهم من الشاشة للعلاج النفسي من أزمة الخروج من السلطة، وهم يدافعون عنها على طريقة الضباط، وبعبارات يجري اصطيادها من هنا وهناك، عن الوطنية والعمالة واعتبارات الأمن القومي المصري!
من العبارات التي اصطادها «المقرحي» وهو يتحدث عن أزمة اقتحام نقابة الصحافيين، هي عبارة للرئيس المخلوع مبارك، نصها: «الصحافيون ليست على رأسهم ريشة»، وهي عبارة قالها في موضوع القانون الذي وصفه الصحافيون بقانون تكميم الصحافة في سنة 1995، والذي كان يقر الحبس الاحتياطي في قضايا النشر، وقالها ضمن عبارات أخرى ارتبطت بهذا القانون، مثل قوله «نحن لا نبيع ترمس» عندما تم الطلب منه تعديل القانون، لكن في النهاية وبعد عام كامل من نضال الجماعة الصحافية تم التراجع عن القانون، والتأكيد على أن الصحافي على رأسه ريشة، وأن الريشة التي تعبر عن التمييز في الواقعة الأخيرة هي الحصانة المكفولة لكل النقابات، والسفارات، ومنازل القضاة!
وهي الريشة التي جعلت المجلس العسكري الحاكم لا يستطيع أن يقترب من السفارة الأمريكية في القاهرة عندما اعتصم بها المتهمون الأمريكيون في قضية التمويل الأجنبي وصدر ضدهم قرار بالضبط والإحضار، وجعلت هذه القوات لا تقترب من منزل القاضي زوج ابنة مرتضى منصور، لأن مرتضى لاذ به فلم تستطع الشرطة أن تقترب منه وتلقي القبض على المطلوب للعدالة، لتنفيذه قرار محكمة الجنايات بضبطه وإحضاره، علماً بأن القاضي كان في إعارة للخارج ومع ذلك ظل بيته عليه ريشة!
ما علينا، فالإعلام المصري يمر بمرحلة جديدة، هي مرحلة العسكرة، وهي تمثل تطويراً للتجربة التي حدثت بعد حركة ضباط الجيش في سنة 1952.
عندما يتحول البرنامج التلفزيوني إلى معسكر، والأستوديو إلى قسم بوليس، ويتبين أن هذا كله جزء من خطة موضوعة، فاعلم أننا في مواجهة سلطة ضعيفة حتى وإن قال السيسي في خطابه الأخير أنه لا يخاف، تسع مرات!
إنها العسكرة في أعلى مراتبها.
وسوم: العدد 667