الانتماء للوطن..

لعلها حالة عاطفية تلك التشابكات المتداخلة التي تربطنا بما يسمى الوطن.. والذي لم نختره نحن، كما أمور عديدة نولد فيها، او ترافقنا عمرنا..

ـ حين نعي.. يكون الوطن هو الانتماء . الهوية . الخيمة والمظلة . الانشداد، والأحاسيس التي يمكن أن تجعلنا عصبويين حتى استئصال الآخر، آأو التكوّر الذاتي، أو العنجهية التي تسدّ افق الإنسانية فينا، ورؤية الآخر من البشر، والحضارات، والأمم، والشعوب، والقوميات ..

ـ ربما لأننا تعرّضنا للتنتيف القسري، والتجزئة الإرغامية كانت ردود الفعل فينا هي الأقوى، بل هي الزاد للردّ على المفقود، وحماية الوجود المهدد بمزيد البعثرة، والضعف، وحتى التلاشي، خصوصاً وأن ما يعرف ب"المؤامرة الخهارجية" كانت حقيقة، وصاعقة، وبقدرة الفعل الكلي في حالات ماثلة، وفلسطين شاهد، والعراق مثال.. فكان الغلو، وكان التشدد في العروبة، والقومية، والمفاخرة بالأصول والجذور درجة ليّ بعض الحقائق، او إهدار حقوق الآخرين من القوميات والإثنيات الموجودة في بلادنا، وأقنمة المقولات على قياس ردّ الفعل ذاك والمضي فيها حتى الأحادية، والاستئثار ونفي الآخر .

ـ الحالة العروبية المختلطة مع البعد الديني.. بخلفيته الإديولوجية، الحضارية . بتلك الدولة الإمبراطورية التي قامت قرونا، وأطلالها المتبقية، وغياب بواعثها النهضوية، ومولدات ردود الفعل ـ هنا ـ على الغرب عموما..وحالة التناقص الملتبسة بين الطموحات للتغيير والتطوير والحداثة وكهوف وبنى التخلف والماضوية في العقل العربي، والنظم التي قامت بعد ما يعرف بمرحلة الاستقلال القطري.. ثم سيطرة النظم الشمولية : الملكية والجمهورية والجملكية.. وما فعلته في الأهداف والأماني، وما أحدثته في الشعوب العربية من تكييف وإخضاع وقطرنة، وتجويف، وإعدام للحقوق الطبيعية..

ـ هذه الوضعية الراكبة على سيل الهزائم، والفشل الراكب على الفساد والاستبداد والفئوية واحتقار الإنسان.. خلخلت كثيراً مفهوم الوطنية، والانتماء.. وجعلت أجيال متعاقبة تهتزّ في جذورها وهي تتطلع إلى الهجرة، أو اللاانتماء، وهي تتخلع مبهورة بالآخر الغربي المتطور.. ونمط الحياة هناك.

ـ وعلينا الاعتراف بشجاعة أن الأوطان ليست شعارات وحسب، ولا عواطف معلبة يمكن كبسها في الأنا المغلقة، حتى لو أثقلناها بكل الإيمان العقيدي، والقصدية الإرادوية . كما أنها ليست حالة معنوية . إنها تلك التي توفر البيئة الصحية للانتماء، والحقوق، والعدالة، والمساواة بين الجميع على أساس المواطنة وليس أي شيء آخر، والتي تلبي مصالح وطموحات البشر، وتشعرهم ـ واقعياً ـ بأنهم مثل بقية الناس في العالم لهم حيّزهم، ومساحتهم وحريتهم وحقوقهم، وفرص العمل المتساوية.. ولهم حق التعبير، والاعتقاد .

ـ وحين يكون الوطن ـ وهو هنا يقترن بالنظم الأبدية القمعية، الشمولية، المتخلفة، الحابسة للتطور، والمانعة لحرية الرأي والتعبير والحركة والعمل ـ سجناً كبيراً، فأي انتماء سيكون له؟.. واي روابط ستربط الناس به؟..

ـ نعم .. لقد قادت نظم الأحادية وافتراس الحقوق الناس إلى الشكّ بأوطانها، وبانتمائها. بعروبتها وبمواطنيتها، وسمحت بتفقيس بيوض خارجة عن المألوف، وبكل الاتجاهات، والتي تبدو واضحة في الأجيال الجديدة التي لا تجد شيئاً مهماً يجعلها تفخر بأوطانها، أو تنشدّ إليها . على العكس فإن ثورة المعلوماتية، والتواصل الاجتماعي الذي فتح حدود المسافات يظهر الفارق الكبير بين أنماط الحياة المعلبة، المتخثرة، المغلقة عندنا ولدى تلك الشعوب التي تسود فيها نظم ديمقراطية تحقق ـ رغم وجود سلبيات كثيرة ـ مستوى عالياً من المساواة، والحقوق الفردية، وصيانة الحياة، ومساحات الإنسان واهتماماته وميوله.. بما يجعل التطلع إلى الرحيل حلم الأحلام..

ـ إن إعدام الديمقراطية سبب رئيس في مصائب الشعوب العربية وما تواجهه اليوم من انتفاضات وثورات وفوضى، ومهددات.. ونزوج شبه جماعي للشباب، وما لم تصبح الديمقراطية نهجاً، ونمط حياة، وحكم.. تكرّس التعددية، وحرية الرأي والاعتقاد، والمساواة.. فإن بلادنا ـ جميعها ـ معرضة لهزّات قوية قد تودي بحدودها الحالية، وتشقفها إلى مزيد التكوينات القائمة على أسس ما قبل وطنية، وما قبل الدولة القطرية، وحتى المشيخية، والملكية ..

ـ إن الديمقراطية خلاص بلداننا، وطريقها الوحيد على معالجة أزماتها الكبيرة، ومواجهة التحديات الخطيرة التي تواجهها على صعيد عام، وبمستوى كل بلد.. والحالة السورية، مثال صارخ .. وقد ألقى نظام الفئوية كل أسلحته لاغتيال وإبادة حقوق الشعب الطبيعية، وفتح أشداق الموت والفناء والتقسيم والهجرة في واحدة من أكبر مآسي القرن .. وحين تسود النظم الديمقراطية، وتتحقق المساواة والعدالة بين الجميع على اساس المواطنية.. حينها سيشعر الإنسان بانتمائه لوطن يحضنه، ويتيح له مجالات العمل والإبداع.. وحينها تفخر الشعوب بأوطانها وتحميها بالمهج ..

وسوم: العدد 667