ثورة الشام: قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها

شاءت فطرة الله عز و جل أن يؤوب المرء إلى ربه إذا وقع في شدة أو عصفت به أهوال الحياة أو أحاط به الموج من كل جانب، وكما وصفه القرآن الكريم فإنه في هذه الظروف الحالكة يدعو الله مخلصاً له الدين ويقسم له أنه سوف يشكره سبحانه إذا أنجاه من الهول الذي هو فيه.  ومنذ أيام عديدة عرض أحد الصحفيين مشاهد عصيبة لركاب طائرة عربية تعرضت لمطبات هوائية عنيفة  أدت إلى ترنحها في الجو وأحدثت هلعاً بين ركابها وسمعت استغاثاتهم وتكبيراتهم وشوهدت علامات الجزع على وجوههم، وكان أحدنا يتمنى أن ينظر إلى تعابير وجوههم ويسمع من ألفاظ أقوالهم قبل هذا الهول وبعده وذلك لأن الانسان جاحد للفضل إلا من رحم ربي.  

ولا شك أن الأهوال التي تتعرض لها الشعوب حين ثوراتها أهوال عظيمة وفتن جسيمة وما شاهدته أرض الشام من الملاحم والكروب يفوق ما وصفه الواصفون وأثبت تأريخه المؤرخون.  

كان عزاء الكثيرين منا أن هذه الملاحم بما فيها من صروف وآلام وجراح وآهات ستقع في قلوب أهل الشام موقع الحادث الجلل فتزكي قلوبهم وتقوم أخلاقهم  وتطلق فيهم عنان الحب والمودة  والعطف والإيثار  والصدق والإخلاص وتزيح ما تراكم على أفئدتهم من براثن الأثرة والنفاق والكذب والحقد والرياء..

ولقد تحققت هذه الأماني على أجمل ما يكون من مثال وشهد الداني والقاصي سعي الكبير والصغير لنصرة المظلوم وإطعام الجائع وتضميد جراح المصاب والذب عن حياض المستضعفين فأعادت هذه  الصور ذكريات النبوة والرعيل الأول والتاريخ بل إنها لقطعية ثبوتها صورة وصوتاً أصبحت في حكم  اليقين في صحتها ودلالتها، ولو أن علماء الحديث الأولين مازالوا أحياء لأضافوا مصطلحاً جديداً  إلى مصطلح "المتواتر والصحيح" للدلالة على  ثبوتها وذلك قطعاً لطريق المتحذلقين والمدعين الذين سوف يصمون كل من يصدق مثل هذه الملاحم بالسذاجة في الفكر والسطحية في الحكم.

وعلى الرغم من التغير الهائل في أخلاق كثير من الناس نحو الخير والبر إلا أن فئة منهم انحدرت في خلقها إلى الفجور والعدوان ودست نفسها في الباطل بدلاً من تزكيتها في الحق. وصف غوستاف لوبون هذه الفئة الفاجرة في كتابه "روح الثورات والثورة الفرنسية" بقوله: "فالخوف من العقاب يردع كثيراً من هؤلاء الأخلاط  المشائيم عن اقتراف الجرائم في الأوقات العادية ولكنهم لا يتأخرون عن ارتكابها عندما تستطيع غرائزهم المنحطة أن تسير حرة، فهم الذين يقترفون أنواع القتل والنهب والتحريق غير مكترثين للنظريات والمبادئ أبداً. و ينضم -بتأثير العدوى- إلى هذه الطبقة المنحطة جماعة من العاطلين الذين يصرخون مع كل ناعق ويتمردون مع كل متمرد من دون أن يفقهوا شيئاً من المسألة التي يصرخون من أجلها ويتمردون في سبيلها، فمنذ أن تفلتوا من قيدهم سنة 1789 أخذوا في ذبح الناس وشرحوا المسجونين وهم أحياء ومثلوا بهم لتمتد آلامهم ويتسلى الحضور باضطرابهم ونواحهم".

ويصف لوبون فئة أخرى من الشعب طالما وصمت بانحطاط المروءة لوقوفها موقف المتفرج على الجرائم البشعة دون أن تحرك ساكناً لأن الخوف يجعلها مطيعة لنفوذ الزعماء، ولكن لوبون من استقرائه  لأحداث الثورة الفرنسية  يتنبأ لهذه الفئة "أن تستجيب لمقومات الأمة الوراثية بعد أن تضجر من الثورات فتدفعها روح الأمة الثابتة إلى الوقوف أمام الفوضى عندما تستفحل باحثة عن رئيس قادر على إعادة النظام". ويدلل لوبون على ذلك بقيام الحكم المطلق  بعد فوضى الثورة الفرنسية عندما هتف  الفرنسيون لنابليون وأقروه على استبداده بالحكم وجعلوه امبراطوراً لدولتهم.

ولأن المحن يرتجى منها الإصلاح وتزكية النفوس فإنه لا غرابة أن نرى هذا الانقلاب الهائل من الخوف والجبن إلى الشجاعة والإقدام ومن الحرص والحسد والزهو إلى الكرم والتواضع ومن النفسية المجرمة إلى النفسية الثورية ولكن الغرابة كل الغرابة أن نشهد انقلاب فئة من هذه الشعوب من الرحمة والإشفاق إلى الجبروت والقتل ومن الحب والوئام إلى الحقد والضغينة....

هذه الأسقام النفسية لم تكن مقصورة على ثورة الشام  فحسب بل هي ظاهرة معروفة لكل منصف يستقرئ التاريخ، فإن رجال الثورة الفرنسية لم يكتفوا بمقت أعدائهم بل إنهم مقتوا أعضاء حزبهم الخاص وكما قال أحد الكتاب حديثاً: "إذا نظرنا إلى ما كانوا يصفون به بعضهم بعضاً لم نر فيهم سوى الخونة والكاذبين وبائعي الضمائر والقتلة والظالمين" ولم يهدأ هذا الحقد إلا بقتل كل امرئ يخالفهم، وكانت قاعدة "لا سلام  للمغلوب" هي قاعدة الثورة الفرنسية الأهم وقد أشار إلى هذه الحقيقة أحد أساتذة المدرسة الحربية القائد كولان حيث قال: "لا داعي إلى الشجاعة في الحرب أكثر مما إلى الحقد فهو الذي نصر بلوخر على نابليون، وإذا بحثنا عن أحسن الحركات العسكرية وأحزمها رأيناها قد صدرت عن البغض والنفور أكثر مما عن العدد".  

أيها الموحدون  في الشام أما آن لكم أن تستجيبوا لله وهو يناديكم: "الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتو الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور"  عبادة الله وتوثيق الصلة به والانتصار على شح النفس والتطهر من الحرص ووساوس الشيطان وكفالة الضعاف والمحاويج والدعوة إلى الخير والصلاح ومقاومة الشر والفساد. أما إذا أردتم لثورتكم  أن تنتصر على طريقة الثورة الفرنسية فلا تلوموا إلا أنفسكم لأن الكلفة الإنسانية للثورة الفرنسية  كانت باهظة على نحو موجع فقد فقدت فرنسا نحو مليوني قتيل من عدد سكانها الذي يبلغ 27 مليون فرنسي آنذاك . أما عن ضحايا المقصلة، ومن قتلوا بقطع الرأس بعد سقوط الباستيل، فإن أرقام الضحايا تبدو مذهلة حقا. حيث شهدت "فاندي" وهي إحدى المناطق الفرنسية أول مذبحة جماعية في أوروبا سبقت مذابح النازيين بفترة طويلة، تنوعت فيها أدوات الإبادة من الذبح إلى الإغراق في الماء، إلى إطلاق النار على المئات معا حيث يقدر عدد ضحايا هذه المذبحة وحدها من 100 إلى 600 ألف قتيل.أليس في ذلك ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد؟؟؟!!! 

وسوم: العدد 667