حرب رمضان من وجهة نظر إسرائيلية

د. عبد السلام البسيوني

 سمعت خطاباً للهالك شـارون يرى فيه العرب مثل رِجل البنطلون القديم، لا قيمة لهم، ولا وزن لقوتهم، وأعلن (بالفم المليان) أن العـرب لم يربحوا جولة واحدة في الحرب مـع إسرائيل، وأنها طالمـا بهدلتـهم، ومرغتهم بالتراب.

لم أصدق هذا (الفشر) الشاروني، رغم أن كثيراً من المناضلين يقللون من نصر رمضان المجيد الذي أكرم الله به الأمة ذات مرة لأنها قالت: الله أكبر، واختارت رمضان (مش أكتوبر ولا تشرين) لتحاول استرداد شيء مما فقدت من الكرامة، فنالت ما أرادت..

وإزاء التبجح الشاروني وجدت شهادة تحليلية جميلة ليوري أفينيري أحد نشطاء السلام ورئيس حركة السلام الإسرائيلية والكاتب الصحفي، كتبها بعنوان: حقيقة شعبة المخابرات، جاء فيها:

في الوقت الذي صمم فيه جمهور غاضب الهجوم على قصر السلطان، أشاع عملاء الوزير بأن القمح يوزع مجاناً على أبواب المدينة. فنسي الغاضبون القصر، وهرعوا نحو الأبواب ليحصلوا على القمح. فجأة، قفز الوزير من مكانه، وبدأ العدو.

إلى أين تركض؟ سأله السلطان، قائلاً في دهشة: أنت تعلم يقيناً أنه لا يوزع أي قمح!

فقال الوزير: من يعلم؟ لعلّ الأمر صحيح!

 تبادرت هذه القصة إلى ذهني بسبب ما يحدث الآن في أمريكا. بعد أشهر طوال من صمت القبور منذ الحادي عشر من أيلول، حين مشت وسائل الإعلام الأمريكية وراء الرئيس كالقطيع (بالضبط كما تمشي وسائل الإعلام لدينا وراء شارون)، بدأت تعلو أصوات ناقدة: أين هي أجهزة الأمن؟ هل كان باستطاعتها معرفة ما سيحدث؟ هل هي المذنبة والمسؤولة عن الفشل الأزلي؟ من المسؤول؟ هل هم رؤساء المخابرات فقط، أم الرئيس نفسه أيضاً؟

هذا الأمر لم يرق لبوش، لم يرق له أبداً، حين رأى رجاله أن هذا الأمر بدأ بالتعاظم، أعلنت أجهزة الأمن أنها اكتشفت مؤامرة فظيعة ومخيفة: إن العدو الغاشم ينوي تفجير الولايات المتحدة بقنابل مشعة؛ حتى إنها عثرت على المفجر الغاشم، أزعر شوارع صغير من أصل هسباني، يوشك أن ينفذ هذا الجرم المعقد.

تملكت الهستيريا قلوب الشعب، ووقفت وسائل الإعلام وأعضاء الكونغرس على أهبة الاستعداد: من يعلم إن كان هذا الأمر صحيحاً أم لا، ربما؟

لقد أدخلت إخفاقات الأجهزة الأمنية إلى الثلاجة لوقت مؤجل؛ إلا إنه لا يمكن طمس الحقيقة لوقت طويل، فأمريكا ليست إسرائيل، ووسائل الإعلام هناك لم تتعود أن تسير كالقطيع، وتلحس مؤخرة السلطة دائماً - سوري.. هذا تعبير أفينيري شخصياً - كما هو الحال عندنا.

ماذا كان يعلم الموساد الأمريكي، السي آي إي، عن مؤامرة تفجير الطائرات في قلب ناطحات السحاب؟

ماذا كان يعلم"الشاباك" الأمريكي، الإف بي آي؟

إن كانت بين أيديهم حقائق مروعة كهذه، لماذا لم يستخلصوا العبر الواجب استخلاصها؟

لماذا لم يحذروا، ولم يتخذوا الإجراءات، ولم يعلموا القيادة؟ هذا يذكرني بقصة أخرى، مختلفة تماماً، ومتشابهة إلى حد كبير.

 بعد حرب أكتوبر تمت تنحية رئيس هيئة الأركان، دادو (دافيد العزار) كمسؤول أعلى عن الإخفاق الذي سبق الحرب: عدم تجنيد الاحتياط، وعدم إرسال القوات إلى الجبهة في الوقت المناسب، الأمر الذي أتاح النصر المصري- السوري الخارق مع انطلاقة الحرب.

بعد عدة أشهر دعاني دادو إلى بيته. وكان يبدو عليه أنه في ضائقة نفسية حادة، لقد كان متأكداً أنه قد لحقه ظلم لا يرحم. كيف يمكن أن يكون هو المسؤول عن الفشل، في حين أخفى عنه جهاز المخابرات التابع للجيش، عشية الحرب، كل المعلومات الكثيرة التي تراكمت في ملفاته.

أية معلومات؟

أصغيت إليه تنتابني الدهشة المتزايدة، حين عدَّد بعض الحقائق التي كانت معروفة بالنسبة لجهاز المخابرات في ذلك الحين. فمثلاً أعلم مفتي الجيش المصري الجنود أنه اعتباراً من صباح الغد عليهم كسر الصوم (في رمضان) ولأن الصوم هو أحد أركان الدين الإسلامي، وجب أن يضيء هذا الأمر ضوءاً أحمر قوياً لدى أجهزة المخابرات.

لقد كان بين يدي أجهزة المخابرات معلومات كثيرة كهذه:

غواصة مصرية في قلب البحر تلقت أمراً بإبطال عمل اللاسلكي إبطالاً تاماً، ابتداءً من ساعة معينة/ جندي مصري ودع أخاه الموجود في وحدة أخرى لاسلكياً، بتحية إسلامية مخصصة للذين على وشك الموت وغيرها وغيرها.

ماذا كان مصير كل هذه المعلومات؟

لا شيء، لقد تم دفنها في الملفات.

لماذا؟ لأن رئيس شعبة المخابرات، إيلي زعيرا، كان على اقتناع تام بأن المصريين لن يجرؤوا على مهاجمة جيش الدفاع الهائل!

لقد اعتقد أن حركة المصريين ليست إلا أكذوبة كبيرة للضغط على حكومة إسرائيل.

كل هذه المعلومات التي وصلت سقطت في حفرة سوداء في هذا السياق؛ فلم يتم تمريرها إلى

رئيس هيئة الأركان، ولم تصل أيضاً إلى وزير الدفاع موشيه ديان، ورئيسة الحكومة غولدا مئير.

(أنا الإنسان البسيط أنذرت غولدا مئير عدة أشهر قبل ذلك، وذلك من على منصة الكنيست، بأن المصريين سيهاجموننا، حتى لو كانوا مقتنعين تماماً بأنهم سوف يسحقون سحقاً باتاً.

إن رفض غولدا التام للمثول لإشارات السلام من قبل الرئيس السادات أوجد جموداً سياسياً تاماً. وقد آمن المصريون أن هجوماً عسكرياً، حتى لو فشل، من شأنه كسر هذا الجمود).

إن إخفاق (إسرائيل) في حرب أكتوبر كسر أساطير الجيش غير المنكسر (الذي لا يهزم)، وغير تماماً مكانة إسرائيل، إلا إنها ليست حادثة فريدة من نوعها، لقد حدث نفس الشيء للروس عشية الاجتياح النازي (حملة برباروسا)، حين تلقـت أجهزة المخابرات الروسية مسبقاً تفاصيل دقيقة عن الهجوم المتوقع، بما في ذلك اليـوم والساعة. وقد حدث الأمر ذاته تقريباً للأمريكيين في بيرل هاربر، والقائمة طويلة.

لماذا حدث لهم هذا؟ أين مربط الفرس؟

 لقد فكرت ملياً على مر سنوات بإخفاقنا : ما الذي يجعل ضابطاً ذكياً مثل زعيرا يتعلق بالمفهوم، مع أن المصريين استعدوا للهجوم أمام عينه!

هل كان هذا مجرد استعلاء فكري؟

إن لرئيس شعبة المخابرات في إسرائيل صلاحيات هائلة.

إنه الشخص الوحيد الذي يقدم للمستوى السياسي تقييماً عن الوضع القومي، الذي يملي - بشكل كبير - على الحكومة تحركاتها.

ولأول وهلة، هو رجل مهني لا سياسي، وتقييماته مهنية محضة.

هل الأمر كذلك فعلاً؟

في كل دولة وفي كل نظام حكم، يعلم رئيس المخابرات أن مستقبله المهني متعلق بالمستوى السياسي؛ إنه يلائم نفسه، بوعي أو لا وعي، لاعتقادات الزعيم؛ سواء كـان دكتـاتوراً مستبداً، أم رئيس حكومة ديمقراطياً.

 بعد حرب الأيام الستة قادت غولدا وديان دولة ثملة بالانتصار.

إنهما لم يحلما بإرجاع المناطق المحتلة، ولذلك خنقا مبادرات السلام بشكل عدائي، لقد جذرا الاستهانة بالعرب، والإحساس بأنهم لا يساوون شيئاً، وأنهم يمكـن التغاضـي عنهم.

لقد قالت غولدا: لا يوجد شيء يدعى شعب فلسطين، وقد استهزأ ديان بالجيوش العربية.

ولائم رئيس شعبة المخابرات نفسه وحول هذا التوجه "المفهوم".

ستالين لم يكن مستعداً للاعتراف بأن عهده مع هتلر كان خطأً تاريخياً، ولذلك هـدد بنفي أي ضابط مخابرات يقدم له تقريراً عن تحضيرات النازيين للهجوم، إلى سيبيريا. كمـا ضحك الأمريكيون على "الأشخاص الصفر الأقزام"، والرئيس روزفلت استفزهم متعمداً.

يفهم رجالات الاستخبارات نفسية رجالاتهم ويزودونهم بالسلع المطلوبة، يمكن القول بأن هذا فن من فنون شعبة المخابرات.

قبل الحادي عشر من أيلول 2001م، كان رجالات السي آي إي، والإف بي آي يعلمون أن رأس الرئيس الجديد لا يأبه للمشاكل الدولية، وقد أراد معالجة الأمور الداخلية التي كان أكثر إلماماً بها.

لم يرد بوش التعامل مع موضوع الشرق الأوسط، وأن يختلف مع الجالية اليهودية والمسيحية المتطرفة، فلا حاجة لأن نقص عليه أنه في منطقة الشرق الأوسط تتراكم كراهية عمياء تجاه أمريكا، بسبب دعمها للاحتلال الإسرائيلي؟ وأن هناك خطراً محدقاً بأن يقوم المسلمون بعملية انتقامية أمام الأنظار (فماذا باستطاعة هؤلاء العرب أن يفعلوا؟)!

لذلك لم يولوا أي اهتمام لتفاصيل المعلومات التي كان من شأنها إضاءة ضوء أحمر قبل حدوث الأمر. لم يتم نقل هذه المعلومات إلى الجهات العليا، ولم يحث الأجهزة المختلفة على تبادل المعلومات فيما بينها، ناهيك عن أنه لم يتم إعلام الرئيس ورجاله الموجودين في سفينة المختلين البيضاء في واشنطن.

هل سيساعد التحقيق في هذا الفشل في تصحيح الوضع؟ أشك في ذلك؛ لأنه قبل الكارثة القادمة في أمريكا أو في إسرائيل أو في أي مكان آخر في العالم، سيزود رجالات المخابرات رؤساؤهم ما يريد رؤساؤهم سماعه بالضبط! وكل هذا في إطار"المفهوم" المهني إلى أعلى حد.

وسوم: العدد 674