الحزن البهيّ
مادونا عسكر
كثيرة هي أحزان الحياة وجمّة مآسيها وأليمة حسراتها، تعصف بالنّفس وتبعث في عمقها القلق والاضّطراب وتلطمها كرياح تتناوح فتعنّف رقّة الورود وثبات الأشجار، وتقسو على نداوة الأمواج وهشاشة الرّمال.
لا تبارح النّفس هذا العالم إلّا والحزن يرافقها في شتّى مراحل نموّها، وتراها تقاومه حيناً وتستسلم له أحياناً، وتتصلّب تارة وتتشدّد كي لا ينهكها سواده الظّليم، وتتزعزع طوراً من قسوة الوزر فتنقاد إلى اليأس والقنوط حتّى تتمنّى الرّحيل عن هذه الحياة خوفاً من المجهول القادم إليها، والحامل لمزيد من الكرب والهمّ.
كلّ نفس تخفي في عمقها حزناً وإن رسمت عنوة على ثغرها ابتسامة لطيفة تحجب مرارة هذا الحزن، وكلّ نفس تستر كآبتها بملامح فرح قد يكون مزيّفاً أحياناً، أو يتوارى أساها خلف كلمات كثيرة تُردّد تلقائيّاً لشدّة اللّوعة والوجع، أو ترتحل إلى عالم العزلة والوحشة، تجالس الدّموع والذّكريات. إلّا أنّ على هذه الأرض المسكونة بالتّعاسة والشّقاء، نفوس طرحت جوى العالم وأعرضت عن مغرياته الّتي غالباً ما تشدّ النّفس إلى أسفل، وباعت كلّ التّفاصيل في سبيل حزن أعظم وأجلّ، يقودها إلى فرح لا ينتهي ولا يزول.
إنّه الحزن البهيّ. خشوع النّفس أمام عظمة جوهرها وقدسيّة باريها، واتّضاعها أمام سرّ الحقيقة، وانسحاقها عند قلب الحبيب الأوحد. حزن بهيّ، تعرّف عنه دمعة واحدة تتسرّب من عينين شاخصتين إلى الحبّ الأزلي، تعاين مجد الحبّ وتتشوّق إليه، وتعي صغرها ونقصها أمام كبر الكمال. وفي أوج الفرح من الحزن والألم ترهب وتصمت، وتعانق الشّوق المستعر وتخلد إلى حضن السّلام، راجية أنفاساً أخيرة تقرع باب المجد، فتهلّ الحياة.
قاتل هو ذاك الحزن الأرضيّ، إذا ما استحكم بالنّفس ودرأ اندفاعها وأخمد شعلتها، ومنعش هو ذاك الحزن البهيّ، الباعث للرّفعة والسّمو، والمزهر في نفوس القدّيسين شعلة ناضرة لا تنطفئ ولا تخمد نارها. عظيم هو وجليل، ذاك الحزن البهيّ الّذي يولّد في حنايا النّفس جمرة، كلّما انقبض القلب وانبسط، اكتوى بأنوارها ولسعته سهام الحبّ المعظّم، وغرق في تأمّل الكمال، ساعياً إليه بصمت ووقار، صاعداً أبداً إلى فوق حيث الحقيقة التّامة.
طوبى لمن قاده الحبّ إلى مخدع صغير، يناجي فيه حبيبه الأوحد. طوبى لمن أثقل أغصان كرمة الألم الغضّة بياسمينه النّقيّ، فسار قدّيساً بين أشواك سامّة، ثابتاً في الحبّ، متمسّكاً بسرّ الكلمة المعلنة من فم السّماء. طوبى لمن يحيا الحبّ ببطولة حاسباً كلّ نفَس غير معطّر بالحبّ هباء.