عتبٌ على مصر في ذكرى وفاة أبي
د. مصطفى يوسف اللداوي
أربعة عشر عاماً مضت على وفاة أبي، رحمة الله عليه، ورضي عنه وغفر له، وتغمده بواسع رحمته، وأسكنه فسيح جناته، وجعله في الفردوس الأعلى مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، وبارك الله له في ذريته من بعده، وجعلها له خير خلف، وأفضل عقب، تدعو الله له، وتخلص العمل من بعده، وتحقق آمانيه التي أحبها، وتنفذ وصاياه التي أرادها، كما لو كان حياً بيننا، يوجهنا ويرشدنا، ويحفظنا ويخاف علينا.
توفي والدي في القاهرة غريباً وحيداً إلا من ولده، الذي رافقه إلى مصر في رحلة علاج، رغم أنه لم يكن يشكو من كبير، ولم يكن يعاني من مرضٍ خطير، إلا أنه كان يحب مصر ويهواها، وقد عاش فيها سنيناً، ولبث فيها عمراً، سكنها وعمل فيها، وخبرها وعرف أهلها وناسها، وأحب نيلها وهواءها، وعشق سحرها وبهاءها، فكان قلبه معلق بها، وروحه تتوق إليها، ويشعر بمتعة العيش فيها، فهي بلاده مع فلسطين التي أحب، وهي عنده أم الدنيا، وروض ربيعها الأخضر، التي باركها الله وأجرى تحتها الكوثر.
ظن والدي رحمة الله عليه أن في مصر علاجٌ لكل مرض، ودواءٌ لكل داء، وفيها شفاءٌ من كل علة، وبراءةٌ من كل سقم، ففيها يشفى المرضى، ويتعافون من كل مصيبة، ولا يشكون من أي علة، إذ أن أطباءها مهرة، ومستشفياتها تتسع لكل المرضى، ودواؤها فيه الشفاء، وأرضها فيها البركة والنماء.
كانت ثقة أبي في مصر كبيرة، وإيمانه بها شديد، وهي ثقةٌ قديمة لم تتزعزع ولم تتبدل، ولم تغيرها السنون، ولم تؤثر فيها الأحداث، بقيت في نفسه على أصالتها القديمة، وعاشت في قلبه كما كانت عريقة، أم الدنيا وكبيرة العرب، تهواها النفوس، وتعشقها القلوب، وترنوا إليها العيون، لا تدانيها دولة، ولا تشبهها بلاد، ولا ترقَ إليها أمةٌ، ولا تقوَ دولةٌ على القيام بما تقوم به تجاه العرب عموماً والفلسطينيين خصوصاً.
لكن أبي الذي جاء إلى القاهرة طالباً العلاج فيها، قد وافته المنية فجأة في أحد مستشفياتها، وقد كان يخطط لو قدر الله له العلاج والشفاء في مصر، أن يزورني في دمشق، وهو الذي لم أره منذ مساء يوم الرابع عشر من ديسمبر 1990، عندما اعتقلتني سلطات الاحتلال الإسرائيلي لآخر مرة، قبل أن تبعدني وثلاثة أخوة آخرين إلى جنوب لبنان، فلم يحالفني الحظ برؤيته، ولم يقدر لي الله أن ألتقيه مرةً أخرى، إذ لم يكن من السهل خروجه من غزة لزيارتي في بيروت أو دمشق، فكان قدر الله في مصر أسبق، ورحمته أسرع، إذ أدركته منيته دون أن يحقق أمنيته، وقبل أن يراني وأخي الذي خرج من غزة طلباً للعلم في تركيا، وقد كان والدي يتوق إلى رؤيته، وهو الذي كان يخاف عليه من السجن مجدداً إذا عاد إلى غزة قبل أن يتم تعليمه، وينهي دراسته.
توفي والدي فجأة، بعد ساعاتٍ قليلة من دخوله إلى المستشفى، ولم يكن مرضه خطيراً، كما لم تكن حالته سيئة، ولكن الأعمار بيد الله، وهي أقدارٌ نؤمن بها ونسلم، ونقبل بها ولا نعترض عليها، فهي مشيئة الله وإرادته، وقد كتب أعمارنا، وحدد آجالنا، وقدر لنا كيف نموت وأين ندفن.
أصابنا الحزن الذي يصيب كل من يفقد عزيزاً، ويلوع قلب كل محبٍ لفراق والده أو ولده، أو أيٍ ممن يحب ويرتبط به، لكننا لا نملك إزاء مصيبة الموت إلا أن نقول، لله ما أخذ وله ما أعطى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.
حاولتُ السفر إلى القاهرة لأكون إلى جانب أخي الكبير في وداع والدي، إلا أن السلطات الأمنية المصرية رفضت السماح لي بدخول مصر، رغم أنني كنت أول من وضع لبنات العلاقة الأولى بين مصر وحركة حماس، وكنت أول من زارها، وأول من صاغ مفردات العلاقة معها، وقد زرتها كثيراً ضيفاً على مؤسسات الدولة الرسمية المختلفة، إلا أن المخابرات المصرية، وعلى الرغم من الجهود الكبيرة التي بذلتها ووسطاء آخرين، للسماح لي بوداع والدي وهو المتوفى، وعما قليل سيدفن وسيوارى الثرى، إلا أن جهودي والوسطاء فشلت، وعجزت عن الحصول على الموافقة، فكما لم أتمكن من رؤيته حياً وأنا في السجون الإسرائيلية، أو مبعداً من فلسطين المحتلة، عجزت عن رؤيته ووداعه ميتاً في مصر التي أحبها وعشقها، والتي كانت فيها آخر أيامه، وأصعب معاناته.
عندما عجزت عن السفر إلى مصر، ظننت أن هناك أسباباً أمنية وسياسية قاهرة تحول دون أن أدخلها، فسلمت بالأمر، ورضيت بالقضاء، ولم أحاول مجدداً، وكان أخي الذي كان يدرس الهندسة في الجامعات التركية، قد توجه إلى مصر، وهو الذي خرج من غزة عبر القاهرة في طريقه إلى أوروبا، ولما كان أخي يحمل وثيقة سفرٍ مصرية سارية المفعول، ويملك وثائق ومستنداتٍ تفيد بأنه طالبٌ ويدرس، ويتمتع بإقامةٍ رسميةٍ ساريةٍ في بلد الدراسة، فقد كان يتوق أكثر مني للوصول إلى مصر، لوداع والده، وربما مصاحبة جثمانه إلى غزة.
إلا أننا فوجئنا أن السلطات الأمنية في مطار القاهرة رفضت السماح له بمغادرته، واحتجزته في قبوه الشهير ثلاثةَ أيامٍ، ومنعته من الخروج منه، رغم علمها أنه جاء لوداع والده الذي توفي في القاهرة، وربما المشاركة في تشييع جثمانه في غزة، ولم تجد كل المحاولات الذي بذلت للتنسيق له، وتمكينه من الدخول، بعد تقديم كل الضمانات الممكنة لهم، إلا أن القرار كان صارماً، والمنع كان حازماً، والإجراءات كانت جادة، ولم يسمحوا لأخي بالدخول، كما لم يسمحوا لي بالسفر، وبعد أيامٍ ثلاثة عاد أخي أدراجه من مطار القاهرة لنلتقي معاً في دمشق، دون أن يتمكن من وداع أبي، ولا البكاء على قبره.
قد لا تكون هذه معاناتنا وحدنا، فربما آخرون كثرٌ قد عانوا مثلنا، وواجهوا أكثر مما واجهنا، وتألموا كألمنا، وأصابهم أكثر مما أصابنا، ولكننا لا نجد المبرر لهذه المعاناة، ولا نفهم السبب لهذه الجفوة، ولا نعتقد أنها معاملة إنسانية، تليق ببني الإنسان، فكيف بمواطنٍ عربي يعاني من بطش وقسوة الاحتلال.
نسأل الله ألا تتكرر هذه المعاناة مع أحد، وأن تكون مصر لنا البلد الآمن الذي ندخله بإذن الله دوماً آمنين مطمئنين، نلتمس فيها الرحمة، ونجد فيها الحب والحنين، فهي برغم كل شئ البلد الذي نحب ونعشق.