سورية في العالم/ العالم في سورية

تتكلم هذه المداخلة 1 على العالم لا على سورية، لكن من موقعٍ سوري. تبدو سورية في قلب العالم ومرميّة خارج العالم في الآن نفسه، مباحة ومنكشفة كبلد وسكان انكشافاً تاماً أمام العالم، وينال نظامها القاتل تغطية من قوى العالم النافذة في الوقت نفسه. وتلبي هذه الإباحة المتمادية حاجات متنوعة لقوى متنوعة: إنذار بسوء المصير لمن تخامرهم فكرة الثورة، بؤرة لهندسة تقاتُل الأعداء لأطول مدة ممكنة، مختبر لقياس مدى نجوع «خصخصة السيطرة»، ساحة لتمارين عسكرية وتجريب أسلحة جديدة، ومساحة تبادل رسائل وتسديد حسابات بينية بين قوى إقلمية ودولية.

عالم واحد

يبدو القول إن سورية في العالم تحصيل حاصل. لكنه يمكن أن يتضمن فكرة أساسية، فكرة العالم، العالم الواحد (ليس اثنين أو أكثر، وليس جزءاً من شيء أكبر منه، إلى الآن على الأقل). وهذا مكتسبٌ حديثٌ لا يكاد يتجاوز عمره قرنين أو ثلاثة، وفي شكله النشط يعود إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية وعملية نزع الاستعمار، وفي آخر موجاته يعود إلى ربع قرن فقط، بعد الحرب الباردة والديناميكية العالمية المسماة العولمة.وبصورة ما، لا يزال وعداً. فالعالم الواحد إدارته سيئة، ومحاباته للأغنياء والأقوياء مشينة، وتغيير نظامه مُلِحّ.

والقول إن العالم في سورية يبدو تقريراً لواقعٍ ظاهر: هناك عشرات الدول في أكثر من حلف دولي تحارب في سورية، منها أربعة أعضاء في مجلس الأمن، وهناك جهاديون من عشرات الدول يحاربون في سورية. والجهاد الإسلامي المعاصرالذي يحتل أراضٍ سورية رغماً عن سكانها تعود بواكيره إلى العقد الأخير من الحرب الباردة، ثم بصورة أوضح إلى زمن العولمة التالي لها، وهو ظاهرة معولمة قبل أن يدخل مصطلح العولمة التداول، فضلاً عن كونه ظاهرة إمبريالية جوهرياً (مرتبط بمتخيل إسلامي امبراطوري توسعي، ثم منشغل بصراعات امبراطورية، تضمر فيها قضايا العدالة والمساواة والكرامة الإنسانية، والتنوع العالمي).

سورية ساحة مواجهة ومجانبة في الوقت نفسه، وسأحاول أن أتبين منطقاً عاماً في هذا الازدواج.

النقطة الزمنية التي تبدو أنسب لتوضيح الحال العالمية هي مطلع أيلول 2013، وقتَ عُقدت الصفقة الكيماوية بين أميركا وروسيا. ممن تشكلت لوحة القوى وقتها؟ من الدولة الأسدية، وهي لم تنجُ فقط من عقاب مستحق على جريمة بشعة، لكنها صارت تحظى بحصانة أمر واقع في عمليات قتل السوريين بوسائل أخرى، ومن روسيا التي أنقذت نظاماً من العقاب وأدامت حرباً تتيح لها تعزيز نفوذها الدولي، ومن أميركا التي نالت شيئاً مقابل انتهاك خط إدارتها الأحمر وطوت ما كان بقي مما يُفترض أنها أدوات ردع سورية لإسرائيل، ومن ثائرين سوريين متنوعين كانوا في مواجهة عسيرة مع النظام منذ نحو عامين وقتها، وكان سقط منهم ما يقترب من 100 ألف، منهم 1466 في المذبحة الكمياوية قبل أيام من الصفقة، وتُركوا ليُقتلوا بوسائل غير الوسيلة التي حصل أن قررت نخب دولية نافذة حظرها في وقت سابق. ثلاثة رابحين، النظام وروسيا وأميركا، وخاسر واحد، السوريون الثائرون. كان هناك رابح إسرائيلي يبدو أنه هو صاحب فكرة الصفقة أصلاً (انظر مقالة النيويورك تايمز عن الدور الاسرائيلي في الصفقة). بالمناسبة، تقول المقالة إن المبعوث الإسرائيلي إلى واشنطن، يوفال شتاينتز، رأى في الصفقة ربحاً صافياً لخمسة أطراف: للروس والأميركان والنظام، ولإسرائيل، و… للشعب السوري، الذي يتمثل ربحه في أنه «لن يعاني من هجمات أخرى بالسلاح الكيماوي»!

كانت تلك هدية عظيمة للنظام، هدية عظيمة أيضاً للتشكيلات الإسلامية الامبراطورية من شاكلة داعش وجبهة النصرة وأشباهها. وكانت تسميماً لا يحد للثورة السورية، ولحياة ونفوس ما لا يحصى من السوريين.

حرضت الصفقة القذرة مفاعيل ممزقة واستقطابية في أوساط السوريين من مقاومي النظام أنفسهم حول محور القوة والنفوذ. الأقدم اعتراضاً على النظام والأكثر جذرية والأقوى تماهياً بقضية الثورة هم من أُخرجوا تماماً من ساحة الصراع، بعد أن جرى تهميش قضايا العدالة والقانون والحرية كمحتوى للصراع، وتُرِكَ للقوة وحدها أن تكون الفاعل المقرر. كل من ليس قوياً يُهمش أو يُسحق، ومَن قضيتُهم العدالة أو الحرية أو الديمقراطية يُقتلون أو يُخطفون. بعد شهر من المذبحة فقط كان «لواء الإسلام» يُرقّي نفسه إلى «جيش الإسلام»، وبعد أقل من ثلاثة شهور كان يخطف سميرة الخليل ورزان زيتونة ووائل حمادة وناظم حمادي، وبعد حين يغتال محمد فليطاني، ويبدأ بحرب تصفية ضد تشكيلات عسكرية غير سلفية، كانت هي التي حررت دوما والغوطة الشرقية. منذ ذلك الوقت لم تعد الوجهة هي دمشق وإسقاط النظام، هذا الذي بات ظاهراً أن بقاءه إرادةٌ دولية.

وأقربُ شيء إلى الصفقة الكيماوية هو عملية جنيف التي تشترك فيها الأطراف الثلاثة الأولى، وتعمل على بعثرة الطرف الرابع واستتباع أطراف منه وتحطيم قضيته. جنيف استمرار للصفقة الكيماوية أكثر من أي شيء آخر.

بدءاً من ذلك الوقت، وبارتباط وثيق به في رأيي، تجندت وسائل الإعلام الغربية لكلام لا ينتهي عن داعش، وجرى نقل محور الصراع في سورية من مواجهة سوريين لنظام فاشي كان يقتلهم منذ عامين ونصف إلى حلقة جديدة في «الحرب ضد الإرهاب»، تجري مجانبة النظام فيها والسكوت عن جرائمه وتوسعه في حرب البراميل المدمرة لبيئات الحياة، بل وعودته إلى استخدام الغازات السامة بالذات، والانشغال بمواجهةٍ عن بعد مع داعش، مواجهة تضع المجتمع المحلي الذي تحكمه وتحطمه داعش خارج كل حساب (وتبدو سائرة نحو خلق مشكلات إثنية مستعصية، عربية كردية بخاصة، قد تبقى معنا لعشرات السنين)، ويصبح النظام شريكاً عملياً في هذه الحرب التي هي حرب القوى التي كانت تسببت بالأصل في خلق داعش (في حلقتيها الأوليَين، الأفغانية والعراقية، وبصورة غير مباشرة في حلقتها السورية).

عرضَ سوريون حججاً سياسية وأخلاقية تدعم قضية أن التخلص من الدولة الأسدية يخلق السياق الأنسب لمواجهة داعش والقاعدة والاحتلال الجهادي، ويتيح بناء أكثرية سورية جديدة تؤسس لاستقرار سوري جديد وبيئة سياسية سورية جديدة (أكثرية لا تبنى منذ عام 2013 نفسه على مواجهة النظام الأسدي وحده، لكن يستحيل أن تبنى على مواجهة داعش أو حول «الحرب ضد الإرهاب»)، وأن العالم كله سيكون معنا في مواجهة داعش إن جرت مساعدتنا في التخلص من الفاشية الأسدية، وأن سحق داعش سيكون ميسوراً وبأيدي من شردهم ونكل بهم الدواعش، إن كانت الصفحة الأسدية قد طويت، هذا بينما لن يكون غير قلة ضئيلة منا على استعداد للقتال ضد داعش بينما يضع الأميركيون وأتباعهم يدهم في يد القاتل الأسدي من وراء ظهورنا.

لكن كلامنا وقعَ على آذانٍ صماء.

وجرى ترتيب المخاطر على نحو يجعل داعش التي يحتمل أنها قتلت حتى اليوم 5000 أو 10000 سوري كخطر أكبر، بينما النظام الذي قتل أو تسبب في قتل نحو نصف مليون كخطر أصغر. ظاهرٌ أن حياة السوريين وأمنهم لم يكن لها وزن في تصنيف المخاطر، أمن الأميركيين وأتباعهم هو المعيار.

عالمان في عالم

ماذا وراء ذلك؟

فرضيتي هي أنه تطورت لدى النخب العليا في القوى الغربية منذ نهاية الحرب الباردة نزعات مضادة للديمقراطية، وذلك بفعل تفردها في الاستئثار بأرصدة القوة في العالم من ثروة وتكنولوجيا وسلاح، وميلها إلى استثمار هذا التفرد لحل المشكلات السياسية والأمنية الدولية، واقتران هذين بشعور منتشر بالسيادة والتفوق على المنافسين والخصوم وبالغلبة الحضارية، وهذا في غياب حركات اعتراض محلية ودولية فاعلة. لدينا هنا تراكب من القوة ومن الثروة ومن الامتياز، دون قيود موازنة على أي منها. هذا التكوين يضع تلك النخب في علاقة قرابة بنيوية مع الدولة الأسدية (وكالة قوة، تضم حفنة من منعمين واسعي الثراء، يتكلمون الانكليزية، ولديهم حيال محكوميهم شعور تفوق حضاري من صنف العنصرية تماماً، والأرجح أنهم لطالما اغتابوا محكوميهم أمام المبعوثيين الغربيين). هذا بينما لن يكون «المزارعون وأطباء الأسنان» مرئيين، أو ذوي أهمية في حسابات السياسة الكبرى وعلاقات الدول. كان في كلام خريج هارفرد المقيم في البيت الأبيض على «مزارعين وأطباء أسنان» يواجهون حكم بشار الأسد قلة احترام للسوريين وعدم إحساس. قلة ذوقٍ وتنطعٌ أيضاً. لم يكن الرجل مضطراً لقول ما قال.

في خلفية هذه السماجة، في تصوري، أن من مستتبعات انهيار التوازن الدولي التالي للحرب العالمية الثانية والعولمة والسياسات الليبرالية الجديدة، وتعفن أوضاع البلدان المستقلة، وبخاصة في «الشرق الأوسط» لأسباب معلومة (إسرائيل والبترول بخاصة)، ومنها سورية التي وقعت في قبضة حكم قاتل متمرس، أن تمايزَ في سورية وفي معظم بلدان المنطقة عالمان، العالم الأول الداخلي أو عالم السوريين البيض الذين يتماهون بحداثة غربية منزوعة القيم، والعالم الثالث الداخلي أو عالم السوريين السود، المعنفين والمحتقرين والمشتتين. العالم الأول المحلي يقدم خدمات للعالم الأول في الغرب وغير الغرب، خدمات أمنية (كتابة تقارير أمنية بالإسلاميين المحليين وغير المحليين للمخابرات الغربية) ومالية (شراكات، امتيازات لشركات غربية في السوق المحلية، رشوات، استضافات، إيداع أرصدة في بنوك غربية…) وسياسية (تأديب الضعفاء المزعجين والعمل على «ضمان الاستقرار» في الإقليم). والعالم الأول في الغرب وفي المؤسسات الدولية وفي القوى النافذة عالمياً يجد نفسه على قرب من عالم السوريين البيض، بينما هو لا يعرف شيئاً عن السوريين السود، غير المرئيين وغير المُمثّلين. وبفعل اقتران القوة والثروة و«الحضارة» في تكون البيض، تندرج العلاقة بين عالمهم وعالم السود ضمن تراث الاستعمار والعنصرية في كل مكان، وهو تراث حيٌّ ونَشِط.

هنا النقطة الجوهرية في رأيي. وهي محرك مجانبة العالم الأول الدولي المحارب في سورية للعالم الأول الداخلي، والتذرع باستهداف تشكيلات عنفية مثل داعش والنصرة لترك عموم السود مباحين. تتحرك هذه التشكيلات الأخيرة في مساحة تقاطع جنوح قطاعات من السوريين السود، مع ما يمكن تسميته الدولة المضادة، الخارجة على نظام الدول الحالي دون أن تكون ثورية، مثل داعش وشبكة القاعدة المعولمة. هذه الأخيرة إمبريالية مَسودَة، «مظلومة» من قبل الإمبريالية السائدة، رغم أنها لا تتطلع إلا أن تكون مثلها: سيدة، متفوقة في عين نفسها، وتقتل أعداءها على هواها. في صراع الإمبرياليتين لا مكان للعالم الثالث، ولا تتيح له الإمبريالية السائدة ولا الامبريالية المَسودَة، ولا عالم البيض المحلي، تمييز نفسه. إما أن يلتحق بأحد أطراف الثالوث، أو أن يُسحق ويُهجَّر.

ويكملُ مفعولَ ثنائية العالمين النزعةُ الدولانية الشديدة، أو التمركز المفرط حول الدولة في النظام العالمي الذي هو، لا ننسى، نظام دولي، مكون من دولٍ حصراً. هناك شركات وقوى غير دولتية كبيرة، لكنها تحتاج إلى الدول كأُطرٍ لعملها وكقوى ضبطٍ وتنظيم. وهو ما عززه شرط «الحرب ضد الإرهاب» التي هي، منذ نهاية الحرب الباردة، أقرب شيء إلى أن تكون السردية الكبرى لزمن نهاية السرديات الكبرى، ووجهةً عالميةً لا مُنافس لها. كل ما هو دولة يستفيد من الحرب ضد الإرهاب، الدول الأقوى أكثر من الدول الأضعف، وكل ما هو مجتمع أو حركة اعتراض يضعف أو يهمش أو تتراجع استقلاليته، بما في ذلك في الغرب. بل يبدو أن هذه هي فعلاً وظيفة الحرب ضد الإرهاب التي ليس في سجلها أي نجاح، ولم تثمر عن غير تحطيم مجتمعات مثل الأفغاني، العراقي، الفلسطيني، والسوري، والتي يُعلي من رايتها أقوياء قتلة، مثل الأميركيين والإسرائيليين والأسديين والروس.فإذا كان الإرهاب منهجاً سياسياً نخبوياً وغير تحرري قطعاً، فإن الحرب ضد الإرهاب أسوأ. إنها منهج لتحطيم مجتمعات بأكملها، ليس لها إنجاز واحد معلوم في مجال القضاء على الإرهاب، وتحرر المجتمعات التي تنتشر فيها بؤرٌ للمجموعات الإرهابية. ليس هذا صراعاً من أجل طي صفحة الإرهاب وفتح باب السياسة والحلول السياسية للمشكلات الاجتماعية المحلية العالمية، بل هو صراع على الإرهاب، من يحتكره، ومن يضفي الشرعية على الاستئثار به. انتقال الدولة الأسدية من المطالبة بتعريف الإرهاب إلى الشراكة في الحرب ضد الإرهاب، بينما هي تتوسع في الإرهاب والقتل والتدمير العشوائيين خلال خمس سنوات ونيف، يوضح بأجلى صورة أن الحرب ضد الإرهاب هي صراع على امتلاك الإرهاب الشرعي.

سهلت هذه الحرب الإجرامية استتباع المنظمات الدولية وتسخيرها بقوة أكبر من ذي قبل لمصلحة الأقوياء، فحرمت الأضعف في العالم من منبر لإسماع صوتهم ومحاولة التأثير على السياسات الدولية في اتجاهات تناسبهم. نتذكر في هذا الشأن قِوادة الأمم المتحدة حين ارتضت، في واقعة قد تكون من الأغرب والأوقح في تاريخ العالم، ألا تُسمي اللجنة التي أوفدتها إلى سورية بعد المذبحة الكيماوية الجهة الجانية. هل، لو كان «المتمردون» هم من استخدم السلاح الكيماوي، كانت روسيا أصرت على الأمم المتحدة ألا يجري تسمية المجرم؟

الحرب ضد الإرهاب تقوي من هم أقوياء سلفاً، وتضعف من هم ضعفاء، وتدفع الجميع إلى التنافس على القوة حصراً، فتضعف طلب الحياة العادية والديمقراطية في البلدان التي جُعِلَت ساحةً للحرب ضد الإرهاب، كما في البلدان المحاربة ضد الإرهاب. أما من لا يستطيع أو لا يريد الدخول في سباق القوة فيخرج من الصراع، وربما من الوجود ذاته. وبهذا فالحرب ضد الإرهاب هي النهج الأنسب لفرض استقطاب عالمي يحول دون ظهور قوى تغيير وتحرر فعالة، والأنسب لظهور دول وامبراطوريات مضادة: داعش، القاعدة، بوكو حرام، وما شابه. القوة هي الدين المشترك للإرهابيين ومحاربي الإرهاب، للإمبرياليين السائدين والإمبرياليين المَسودين.

هذا ما يضعُ على جدول تفكير وعمل المتطلعين إلى عالمٍ أكثر حرية وعدالة قضيةَ التغير العالمي من جديد. ولا تبدو هناك احتمالات قوية لذلك رغم مناخ الأزمة العالمية التي تعالج بمنهج إدارة الأزمة ذاته، أعني تعزيز القوى النافذة لحدودها واستقرارها (عودة سياسية الحدود، سياسات اللجوء، مشكلات السفر، تحركات الأساطيل ضد «غزوات» اللاجئين…)، وتجنب معالجة الجذور الاجتماعية والعالمية للعنف والإرهاب، وتهميش قضايا العدالة.

اقترنَ تغير النظام الدولي بالحروب بين الكبار، هذا جرى بعد الحرب العالمية الأولى، ثم الحرب الثانية، وبصورة ما في نهاية الحرب الباردة، وكان النظام الأوربي يتشكل ويعاد تشكله على ضوء نتائج الحروب منذ معاهدة وستفاليا عام 1648. وبينما تبدو الحروب على مستوى القمة الدولية مستبعدة جداً، فإن النظام الدولي القائم على امتلاك القوى القائدة فيه للحرب سيبقى دون تغيير، بل سيزداد تهميش الضعفاء فيه وكتم أصواتهم. ما يعني أننا ربما نتجه إلى بربرية جديدة يذهب ضحيتها الضعفاء، وتسوغ نفسها بمفاهيم مثل الحضارة (وليس الديمقراطية بالتأكيد: الحضارة مركب قوة وثروة وتنظيم، يولد تملّكه للاحضارة، أي للبربرية)، وسورية هي المثال الأبرز اليوم. أوليغارشية مجلس الأمن واشتغال الأمم المتحدة كشاهد زور، وضآلة هامش استقلالية منظماتها عن القوى الدولية والمصالح الكبرى، وضعف المنظمات الإقليمية، بما فيها اليوم الاتحاد الأوربي، لا تثير توقعاتٍ أقلَّ تشاؤماً.

العالم كله يتجه إلى اليمين دون وجود يسار تحرري مؤثر أو جدير بالتقدير. هناك يسار متعفن بالأحرى، بلا منظورات فكرية وأخلاقية جديدة، وبلا طاقة على الكفاح والتمرد، وبلا قدرة على الانفلات من استقطابات النظام الدولي، بما فيها الاستقطاب بين الدول والدول المضادة. يتعلق الأمر بمجموعات نخبوية ماضوية، «متحضرة» وعاجزة فكرياً وسياسياً، تشكل عملياً قطاعاً مَسوداً من النخب السائدة في بلدانها (على ما وصف بيير بورديو يوماً القطاع الأكاديمي في فرنسا)، ولا تبدو قادرة على الخروج من وضع المنفعل السلبي.

تحتاج سياسة يسارية إلى تحليل اجتماعي للوضع العالمي، يظهر الاستقطابات الجديدة للسلطة والثروة والمعنى عالمياً، وليس إلى تحليل فوقي لأوضاع مجتمعات مجهولة، قد يعرف نفسه بمناهضة الامبريالية، ليس دون أن يفعل أي شيء في مواجهة الامبريالية، بل ولا تؤول مقاربته الفوقية ومن موقع القمة العالمي ذاته إلا إلى مطالبة المجهولين مثل السوريين وأشباههم بالانضباط بمخططات الأنتي-إمبرياليين المتبلدين. غاية ما تؤول إليه مقاربة هذا اليسار المتحضر المتعفن هو إعادة إنتاج الأوضاع العالمية على نحو يُبقي الإمبريالية مصانة، لكنه ربما يخفف أعباء السيطرة عن المركز. هذا هو جوهر الأوبامية بالمناسبة على نحو ما حللته لمى أبو عودة، شيء يشبه نظام الانتداب بين الحربين العالميتين، لكن المنتدب محلي. الانتداب الأسدي المحتمل التجديد على سورية نموذج مرجح لخصخصة السيطرة، ولا بأس بالاستعانة بمساندين إقليميين أعزاء على قلب اليسار الأنتي إمبريالي: حزب حسن نصرالله الإيراني في لبنان مثلاً.

تغيرٌ عالمي

العالم مكسبٌ كبير، لكن في عالم اليوم «حضارة» أكثر (وبربرية أكثر تالياً) وديمقراطية أقل. هناك حاجة إلى عالمية جديدة مغايرة، تعكسُ الاتجاه وتُوسِّعُ فرص الديمقراطية وتقلل التمركز حول «الحضارة». لا مخرج من العالم، ولا عودة إلى غيتوات منعزلة، في الوقت نفسه هناك انقسامات كبيرة في «القرية الصغيرة»، وتخترقها توترات وعنف مدمر. هذا وضعٌ متفجر، التفجر السوري مثال عليه. الحرب على مستوى القمة وانقسام القمة الدولية ليست في الوارد، والنظام مقاومٌ للتغير وعاملٌ على تأبيد نفسه. لكن هذا أدى في سورية إلى ثورة، وليس هناك سببٌ لأن يكون الأمر مختلفاً في عالم يسير نحو شبهٍ أقوى بسورية.

وسوم: العدد 676