الخبز
صاحب الجلالة
الملك المعظم
الخبز سيد الموائد في الكرة الأرضية قديماً و حديثاً، أبوة و جدوداً ، طلب صداقته الكبير و الصغير ، و الرئيس و المرؤوس ، و صاحب الجاه و السلطان ، و كل إنسان طردته المجالس .
عشت طفولتي في حي البياضة بحلب ، و كان فيها أربعة أفران يقصدها أهل الحي : 1- فرن الحموي ، 2- فرن السنكري ، 3- فرن البياضة ، 4- فرن أبوردن ... كان سعر كيلو الخبز 7 فرنكات ، و كان أهل الحي يقصدون تلك الأفران في الصباح لتأمين حاجتهم اليومية من قمر الموائد ، و كل رغيف كالبدر المنير يقفز من بيت النار ، و كان الناس يحصلون على حاجتهم من الخبز بكل سهولة و يسر .
شاهدت الناس في حلب يعظمون شأن الخبز مع رخص ثمنه و سهولة شرائه ، يرددون و يعلِّمون أبناءهم أن الخبز من نعم الله، فيجب احترامها ، فإذا شاهد إنسان قطعة خبز في أرض الشارع ، قبَّلها و سارع إلى وضعها في مكان آمن .
دارت الأيام ... و جارت الأيام على العباد ، و أصبح الخبز أغنية السعادة ترددها الألسنة ، جمرُ الحوادث بألهبتها الحارقة المذلة جعلت النفوس تتقلب على أسياخ الأسى، و تسأل ربها أن يمطر عليها ربطة خبز ، نعم .. ربطة خبز ، اسق العطاش تكرماً ، الماء يسقي النفوس ... و الخبز يغذي النفوس .
وصل سعر ربطة الخبز إلى أكثر من 300 ليرة سورية في السوق السوداء في فترة زمنية عصيبة ، و عزَّ الحصول عليها و لجأ بعض الناس إلى صنع الخبز في بيوتهم ، يأكلون ما صنعوا و يقنعون أنفسهم بأنهم صنعوا خبزاً .
ما أروعك يا أيام السعادة ! منذ خمسين أو ستين سنة كان كيلو الخبز بـ 7 فرنكات ، ربحُ صاحب الفرن في الأسبوع الواحد لا يصل إلى 150 ليرة أي بمقدار ثمن نصف ربطة خبز في يومنا هذا !!
ما أشد شقاء الإنسان حتى يحصل على ربطة الخبز ! يقف المرء ساعات في طابور طويل حتى يحقق ما يتمنى و يحتضن أرغفة السعادة و يعود إلى بيته هانئاً سعيداً بإنجازه العظيم ، و قد تناسى الإهانة و الذل و الضرب من المشرفين على تنظيم سير الطابور ، و يتذكر عاشق الخبز أن مشرف الطابور استعمل بندقيته و أطلق رشاتٍ في الهواء ليضبط استقامة الطابور .
آه يا ليل .... ما أقسى ظلام الحياة ! على جدران بعض الأفران التصقت قلوبٌ لأفرادٍ سلبتهم القذائف الطائشة حياتهم ، و أصبحوا طيوراً في الجنة .
نساءٌ و أطفالٌ و رجال ، جعلت منهم الأيام الحزينة أشباحاً بلا مأوى و لا عمل ، هناك من يلجأ إلى الوقوف أمام الأفران لساعاتٍ طويلة ، ثم يعرض ما أخذه للبيع في السوق السوداء .
الخبز ذاك الملك الذي تهتف كل جياع الأرض باسمه .. مملكته لا حدود لها ، و تروي رعاياه قصصاً لا نهاية لها .
جعل الله الخبز سهل المنال ، رخيص الثمن ، وارف الظلال في كل بيت .. إنه هو السميع المجيب .
وسوم: العدد 677