بغداد وباتون روج: زواج الاحتلال بالعنصرية
نفّذ مسلّح أسود هجوماً جديداً في بلدة باتون روج بولاية لويزيانا الجنوبية الأمريكية قتل فيه ثلاثة ضباط شرطة وجرح آخرين قبل أن يتمكن رجال الأمن من قتله، في هجوم يشابه ما فعله مسلّح أسود آخر قبل فترة قصيرة في مدينة دالاس بولاية تكساس والذي قتل خمسة عناصر من الشرطة وجرح عديدين.
كشف الحادثان نوعاً من التكرار النمطي الذي يكاد يصبح نموذجاً للحالة فالمسلحان خدما سابقاً في الجيش الأمريكي، وكان مسلح حادثة دالاس جندياً قاتل في أفغانستان فيما كان مسلح باتون روج رقيباً في المارينز خدم في العراق بين عامي 2008 و2009 ونال عدداً من الميداليات، كما أن كليهما ناشطان في مجال التصدي للعنصرية ضد السود وقد تأثرا بحالة مقتل شاب أسود على يد الشرطة في دالاس (وقد زار مرتكب هجوم بلدة باتون روج بزيارة دالاس مؤخراً).
في الحالتين أكّدت الأجهزة الأمنية الأمريكية عدم وجود روابط بين المسلحين المهاجمين و«الإرهاب»، وهو، إلى حدّ ما، يعني نفي علاقة ما فعله المسلحان بفكر تنظيمي «الدولة الإسلامية» أو «القاعدة» (أو أنهما – باختصار – غير مسلمين!).
وكي لا نخوض جدالاً جديداً حول طرق قياس الفعل الإرهابي الأمريكية (أو العالمية) فهذا لا يعفينا من الاستفسار عن التجاهل الأمريكي عن ربط الفعل العنيف الذي قام به المسلحان بكونهما خدما في الجيش الأمريكي في العراق وأفغانستان، وعن كيفية تحوّل الواحد منهما من مقاتل في الطرف الأمريكي الغالب والمحتلّ الذي واجه، وما زال يواجه، مقاومة هائلة في أفغانستان والعراق، إلى قرارهما استخدام أساليب أولئك الذين حاربوهم ضد أجهزة الأمن الأمريكية نفسها.
حمل هجوم مدينة باتون روج عدداً من العناصر المهمة التي تفسّر هذه الانتقالة: من هذه العناصر أن المهاجم غيّر اسمه من كافين يوجين لونغ إلى اسم آخر مستقى من جماعة إفريقية أصلية تدعى شينتاوا (وهو أمر يذكر بما فعله محمد علي الذي تحوّل للاسلام وغيّر اسمه الذي اعتبره تراثاً للعبودية)، والعنصر الثاني اللافت للنظر أنه غرّد قبل هجومه قائلاً: «أن تستيقظوا كل صباح لا يعني أنكم أحياء. وخروجكم من أجسادكم لا يعني انكم أموات»، وهي، بلا شك، إشارة إلى أنه قرّر القيام بما يسمى في الأدبيات السياسية «عملية انتحارية»، وهي عملية نفذها في يوم عيد ميلاده الـ29 أي أنّ ما فعله كان قرارا بالموت كبيان سياسي، وهو، وافقنا على ذلك أم رفضناه، هو عين ما كان يفعله مقاومون للولايات المتحدة الأمريكية في صراع عسكريّ غير متكافئ بين أجساد ونظم عسكرية هائلة الجبروت في العراق أو أفغانستان أو… فلسطين.
تشير هذه العناصر كلّها إلى وجود تماثلات في السلوكيات الفردية والجماعية التي يؤطرها الصراع مع الاحتلال، من جهة، والعنصرية، من جهة أخرى، بحيث يتبادلان الأدوار فيتحوّل الرقيب في الجيش الأمريكي الذي نال أوسمة رفيعة على «حسن سلوكه» في القتال ضد شعوب يحتلها جيش بلاده إلى غاضب يدفعه اليأس من ممارسات الشرطة، واليأس من نجاعة دفاع المؤسسات المدنية والقانونية عن حقوق أمثاله إلى قتل من يمثّلون هذه الممارسات (عناصر الشرطة وضباطها) بعد أن كان، قبل سنوات، واحداً منهم.
ما تؤكده هذه الممارسات أن هناك اتجاهاً متنامياً في الولايات المتحدة الأمريكية لاستخدام العنف المسلح ضد الأجهزة الأمنية يتناظر مع تصاعد عدد القتلى السود على يد تلك الأجهزة، وهو أمر يرتبط أيضاً بتاريخ التدخلات الأمريكية العنيفة في العالم.
إن أذرع واشنطن الأمنية الضاربة على غير هدى في العالم، وحراستها لدول متغوّلة مثل إسرائيل، ومفهومها الاستشراقي للعالم الاسلامي الذي يعتبر الطغاة أمراً مفيداً لشعوب لا تستحق الديمقراطية، ويهاجم النتائج تاركاً أسبابها تنداح وتمتد، شؤون لا يمكن ألا تؤثر في أسس أمريكا المدنية نفسها بحيث تتآكل ديمقراطيتها وتنزلق أجهزتها الأمنية إلى مطاردة الفقراء السود والأقليات الإثنية والدينية بحيث يتساوى الداخل مع الخارج وينمو الإرهاب الذي تدّعي محاربته في الخارج ليغدو جزءاً من نسيجها الداخلي.
وسوم: العدد 678