ملحمة تركية من أجل بغداد الرشيد

إحسان الفقيه

في ذلك القصر الفسيح وفنائه الواسع في بغداد عاصمة الخلافة، أبصر هارون الرشيد سحابة تعْبُر سماءه، فنظر إليها وكأنه يستحضر سعة رقعة الدولة الإسلامية المترامية الأطراف، وخاطبها من قلب بغداد: أمطري حيث شئتِ، فسوف يأتيني خراجك.

تَجبي الخراج يا رشيد إلى بغداد، ولم تكن تعرف أنه بعد قرون سوف يُجبى منها الخراج، بعدما تمكنت منها أيادي العابثين في القرن الواحد والعشرين.

فاسكب الشعر في رثائها أو في حبها، أو فدعها لـ "نزار" يطلقها:

 بغداد جئتك كالسفينة متعبا

أخفي جراحاتي وراء ثيابي

بغداد عشت الحسن في ألوانه

لكن حسنك لم يكن بحسابي

ماذا سأكتب عنك يا فيروزتي

هواك لا يكفيه ألف كتابِ

ذاكرة التاريخ حاضرة، ترفع هذا وتُشبعه إطراءً، وتخفض هذا وتلقي به في مزابلها، ومحكمة التاريخ تنصب للأحياء والأموات على السواء...

والحياة مواقف.

وما أكثر هؤلاء الذين باعوا بغداد الرشيد، وارتضوا لأنفسهم مواقف الخذلان والعار أمام الاجتياح الأمريكي البربري الهمجي لبغداد (حسناء العواصم).

وفي المقابل هناك من تدعوه الأحداث لأن يخوض مع الخائضين، ويتماهى مع مصالح الـ أنا، والـ نحن، دون اعتبار القيم، لكنه بدلا من ذلك يتمسك بالمبادئ، لأنه يعرف نفسه، تماما مثل ذلك الأمير الهارب يوما وهو الذي ألِف ألا يرد سائلا، فبينما يسير في بلد الغربة مع وزيره جاءه سائل فأعطاه صرة مال، فقال الوزير: يا مولاي إنهم لا يعرفون أنك الأمير، فأجابه قائلا: لكنني أعرف نفسي.

ويوما ما سجل الشعب التركي، وحزب العدالة والتنمية الحاكم، أنهم يعرفون أنفسهم، وقبل طرق المراد والسعي إلى المأرب، نتأمل في ذلك المقطع أولا:

"إذا نجحنا في خلق وعي إقليمي ومسار متعدد، عندها نستطيع أن نحقق سلاما مستمرا، وإذا كانت الولايات المتحدة تتغنى بأنها دولة ديموقراطية، فنحن أيضا لنا مرجعيتنا الديموقراطية التي يجب أن تضبط تحركاتنا ومطالب الولايات المتحدة والغرب منا... إنني أريد أن أقول لأشقائنا العرب، إن مبادرتنا ليست عملا عفويا، أو محاولة لبيع صفقة أو مجرد خطوة معزولة، وإنما يجب النظر إليها على أنها مسار بدأ، ويجب أن يستمر من أجل مصلحة كل قطر فينا، ومن أجل مصلحتنا الإقليمية جميعا".

* لعلك قد تعيد قراءة المقطع، عندما تعلم أن القائل هو رئيس الوزراء التركي الحالي "داود أوغلو"، والذي كان وقتها كبير مستشاري رئيس الوزراء "عبد الله جول".

قيل عن أوغلو أنه صانع السياسة التركية، وقدم من خلال كتابه "العمق الاستراتيجي" رؤية استراتيجية متكاملة لسياسة تركيا الخارجية في ظل حكومة العدالة والتنمية.

ولعل الإعلامي أحمد منصور الذي استمع إلى كلام أوغلو -الذي سقناه- خلال لقاء معه في كانون الثاني/ يناير 2003م، لعله قد ظن أنه تصريح دبلوماسي لطمأنة الدول العربية في محيطه الإقليمي، لكن في نفس العام وبعدها بحوالي شهرين، ثبت أن مضمون الحديث يعبر عن رؤية واقعية حقيقية تتسم بها السياسة الخارجية للحكومة الوليدة.

الزمان: السبت، الأول من مارس، عام 2003م.

المكان: البرلمان التركي.

الحدث: مناقشة التصويت لمذكرة حكومية تقضي بنشر قوات أمريكية على الأراضي التركية تنطلق منها إلى العراق، وإرسال قوات تركية في العراق أيضا.

النتيجة: البرلمان يصوت لصالح رفض المذكرة.

هذه القصة القصيرة يعرفها القاصي والداني، لكن الذي لا يعرفه الكثيرون، أن هذا القرار الذي أحدث ضجة محليا ودوليا، قد أتى بعد ملحمة ديموقراطية تركية اشترك فيها الشعب وحزب العدالة والتنمية.

وللحكاية دائما بداية:

لم يمض عام على تولي العدالة والتنمية زمام الأمور حتى أعلن بوش غزو العراق، فبدأت الحكومة التركية الناشئة بإجراء سلسلة من المفاوضات لمنع الحرب، إلا أنها باءت بالفشل أمام إصرار الأمريكان، فماذا تفعل الحكومة التركية إزاء تلك الحرب التي فرضت عليها بسبب الضغوط الأمريكية؟

جلس الأتراك بالفعل للتفاهم مع الأمريكان حول ضمانات كافية يحصل عليها الطرف الأول من الأخير حيال نشر قوات أمريكية في تركيا.

- عدم السماح بإقامة دولة كردية في الشمال العراقي.

- تشكيل حكومة انتقالية بعد إسقاط النظام تمثل جميع الأطياف العراقية.

- التأكيد على ملكية الشعب العراقي لموارده.

- نزع سلاح الفصائل بعد انتهاء الحرب.

- حصول تركيا على ما يعوض خسائرها الاقتصادية بسبب الحرب، من -8 إلى -9 مليار، وهبات وقروض من  25 إلى -30 مليار.

تلك هي بعض بنود الاتفاق على نشر 62 ألف جندي أمريكي في الأراضي التركية، وقطعا لا يكفي أن يتم الاتفاق بين الطرفين، كان لابد من مرور المذكرة على البرلمان التركي للنظر فيها، ومن هنا بدأت الحكومة التركية في إدارة اللعبة باقتدار.

رسميا قدمت حكومة "جول" المذكرة ليوافق عليها البرلمان، لكن الأوضاع كانت تشير بقوة إلى أن الحكومة التي يقودها حزب العدالة والتنمية غير راضية عن تمرير ما جاء في تلك المذكرة.

فمثلا تمت مناقشة القرار داخل مقر حزب العدالة والتنمية، لتحدث المفاجأة التي لم يعهد مثلها في أي من بلاد العالم.

الحزب الحاكم يعارض حكومته...

نعم تم التصويت داخل الحزب لرفض المذكرة بنسبة 97%، ليدخل الحزب بكتلته البرلمانية ليرجح التصويت بالرفض، الأمر الذي دعا رئيس الحزب وقتذاك "رجب طيب أردوغان" إلى الإشادة بحرية الممارسة الديموقراطية في الحزب واحترام إرادة أغلبيته.

والشعب يتحرك...

لقد كان رفض المذكرة من قِبَل البرلمان - الذي يشكل حزب العدالة والتنمية أغلبيته - تعبيرا عن إرادة الشارع التركي الذي خرج في مظاهرات عارمة لرفض التدخل العسكري في العراق والسماح لتركيا أن تكون معبرا لقوات بوش في دخول بغداد.

وبلغت الفعاليات ذروتها في ذلك المشهد التاريخي الذي لا ينسى عندما طوق 50 ألف مواطن تركي البرلمان أثناء انعقاد جلسته، فقال الشعب كلمته متوائمة مع رغبة وتوجّه الحزب الحاكم.

لقد أبرزت الإحصاءات أن نسبة 95% من الشعب التركي كان يرفض العمليات العسكرية على أرض العراق.

انطلق الشعب التركي يعبر عن إرادته في عدم التورط في المساس ببغداد الرشيد، زاد من حميته خدش الكرامة، عندما أصدرت صحيفة أمريكية رسما كاريكاتيريا يصور تركيا على أنها عاهرة ترغب في مزيد من الدولارات من أمريكا، فازداد الشعب غليانا.

إلى المتشككين والمشككين:

ألم يكن بمقدور حزب العدالة والتنمية وهو الحزب الحاكم، أن يمرر المذكرة في البرلمان بعد أن يتخذ قرارا داخليا جماعيا ملزما داخل مقر الحزب؟ فلماذا لم يفعل؟

 قل لي بربك لماذا لم يحسم مجلس الأمن القومي التركي الذي ترأسه رئيس الجمهورية "أحمد نجدت سيزر" في اجتماعه قبل يوم من التصويت في البرلمان الموقف، وهو المعهود في مثل هذه القضايا الشائكة شديدة الحساسية؟ لماذا ترك الأمر للبرلمان؟

لماذا صرح الناطق باسم الحكومة عبد اللطيف شنير بعد اجتماع مجلس الوزراء قبل جلسة البرلمان بأن مشروع القرار لم يطمئن قلوب معظم الوزراء؟

لماذا أعلن نائب رئيس الوزراء "أرطغرل يالجين بايير" أنه رغم توقيعه على المذكرة داخل مجلس الوزراء، إلا أنه سوف يرفضها داخل البرلمان أثناء التصويت؟

ألا تعبر تلك المواقف على أن الحكومة كانت راغبة في عدم تمرير المشروع؟

تحديات أمام رفض المذكرة:

لقد كان على الحكومة التركية أن تواجه بعد رفض المشروع، احتمالات قيام دولة كردية في الشمال العراقي بدعم الأمريكان.

وكان عليها أن تواجه التسليح الأمريكي للأكراد دون مراقبة تركيا، وعدم نزع السلاح الكردي بعد الحرب، وهو ما يهدد أمن تركيا.

وكان عليها أن تواجه احتمالات المساعي الأمريكية لمنع انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوربي.

وحتما ستحرم تركيا من الدعم المالي الذي يعوض خسائرها من الحرب، والذي كان من المنتظر أن يبدأ بعد التصويت عليه في البرلمان بالموافقة.

فلم يكن القرار سهلا إلا أن تلك الملحمة الديموقراطية التي اضطر الأمريكان أنفسهم للإشادة بها، قد أنقذت حكومة العدالة والتنمية من ذلك المأزق عن طريق الضغط الشعبي ومسلك الحزب في معارضة حكومته، ما حدا بالبعض إلى القول بأن تركيا واجهت الولايات المتحدة الأمريكية بسلاح الديموقراطية.

وإزاء هذه الملحمة، اضطرت أمريكا إلى نقل قواتها التي كانت قد وصلت السواحل التركية، إلى الكويت بعد أن قال الشعب كلمته.

وأخيرا:

ارجع إلى حديث أوغلو، لتدرك وضوح الرؤية الاستراتيجية في السياسة الخارجية لتركيا، والتي تبني عليها مواقفها، وتعرف لماذا كانت هذه المناورة والمغامرة.

وبصرف النظر عن المصالح التركية الخاصة، التي راعتها تركيا في المسألة ولا تزال تراعيها شأن أي دولة، فإن ما يعنيني ما الذي تم على أرض الواقع، وحينئذ أصفق بحرارة، وألتمس المزيد من كل الشرفاء، فكفاي متحفزتان لمن ينتصر لفكرتي الاسلامية والأخلاقية ( كليّا او جزئيّا ) كما أسلفت ،، وللحديث بقية..