حروب الشطرنج 8-15

د. حامد بن أحمد الرفاعي

حروب الشطرنج - 8  

من إشكالاتنا الكبرى المنتجة لظاهرة التناقض في فقه بعض المسلمين..التداخل المخل بين فقه حالتي السلم والحرب وما يلحق بهما من قيم ومبادئ..ومثل هذا التداخل يشكل مصدراً يغذي حالة الاضطراب بين فهوم بعض المسلمين بشأن التعامل مع تحديات الحياة ومستجداتها..قال لي أحد المفكرين:ماذا تقصد بالتداخل المخل بين فقه حالتي السلم والحرب ..؟قلت:كما تعلم فإن الإسلام شرع لكل من السلم والحرب قيماً ومبادئ وضوابط وآليات تحكمها وتنظم أداءها..والإسلام يقرر أن السلم أصل دائم في حكمه ونهجه ومقاصده لقوله تعالى:"وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ"وأن الحرب رخصة استثنائية مكروهة شُرّعت لرد العدوان والبغي لقوله تعالى:"وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا"وتنتهي الحرب بزوال مبرراتها لقوله تعالى:"فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ"إلا أن بعض المسلمين يصرون على استمرارية الحرب اعتماداً على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الْجِهَادُ مَاضٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ"وذلك لفهمهم الخاطئ بأن الجهاد والقتال كلمتان مترادفتان..فحيثما يقال الجهاد يعني القتال..!والصحيح أن الجهاد هو جهاد كلمة وبيان وبلاغ لقوله تعالى:"وَجَاهِدْهُمْ بِهِ(أي القرآن) جِهَادًا كَبِيرًا"أما القتال فهو رخصة لقوله تعالى:"أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا"والنصان القرآنيان الفيصلان بمسألة التداخل بين حالة السلم والحرب قوله تعالى في السلم:"لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ"وقوله تعالى في الحرب:"إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ"فالسلم له أشراطه والحرب لها أشراطها..والتداخل المخل هو المناقلة المخلة للنصوص بين الحالتين..ورحم الله المتنبي إذ يقول:

وَوَضْعُ النّدى في موْضعِ السّيفِ بالعلى

                                            مضرٌّ كوضْع السيفِ في موضع النّدى


حروب الشطرنج - 14

 (التجديد الراشد)

تتبعت سيرة الملك عبد العزيز- يرحمه الله - مؤسس المملكة العربية السعودية..فوجدته شخصاً يتمتع بخصال حميدة متميزة من أبرزها..التصميم والثبات والتدرج في تحقيق ما يريد..الحرص الشديد على تأليف قلوب الخواص والأنصار..تقليص دائرة الخصوم وتحييدهم..كسب تعاطف أنصار معاديه ما استطاع..البعد عن التوسع في تحقيق الأهداف..تأكيد حرصه على حسن الجوار..يكثر من الاستشارة والمستشارين..شديد التوكل على الله وعميق الثقة بنصره..تأملت ذلك كله وغيره فلمست أن مصدر هذه الخصال عمق إيمانه بالله وصلته الوثيقة بكتابه وسيرة رسوله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام..ووقفت عند السمة الأبرز في حياته السياسية ألا وهي كثرة الاستشارة والمستشارين..وعزيمة تصميمه في تنفيذ ما اقتنع به وجاء موافقاً ومحققاً لمرضاة الله..وحرصه الدقيق على تحقيق المرحة التي حددها لنفسه دون تجاوزها إلى غيرها من طموحاته..فخرجت بفائدة:أن الزعيم العملاق لا يستطيع السير إلا بكفاءات عملاقة من حوله..حقاً ما خاب من استشار..وفي إحدى رسائلي الفكرية قلت:إذا رأيت من يكثر من الاستشارة والمستشارين..فاعلم أنه عملاق عاشق للحقيقة وإلى الأصوب والأفضل يسعى..ومن مواقفه الاستشارية- يرحمه الله- ما رواه لي الأستاذ عبد الله أبا الخير- يرحمه الله- وكان وزير إعلامه قائلاً:"وردت للملك عبد العزيز برقية من تشرشل الزعيم البريطاني المعروف يقول:أستأذن جلالتكم بالسماح لقطعٍ من الجيش البريطاني بعبور أرض بلادكم في طريقها إلى العراق ولكم خالص الاحترام"فسارعت بالبرقية إلى الملك في مجلسه وحوله عدد من مستشاريه..فالتفت إلى جلسائه وأخبرهم بنص البرقية وقال:(وش الراي ياالربع..؟)فجاءت الآراء بين رافضٍ ومترددٍ..فالتفت إلى مستشاره العسكري السيد طارق بيك الإفريقي وقال:(وش راي الأخ طارق..؟)فقال:يا طويل العمر أحسب أن الجيش البريطاني قد عبر أرضنا وهو الآن في العراق..وهذه البرقية بعث بها تشرشل إليكم طمعاً في التمهيد لعلاقات مع زعامة عربية واعدة والأمر لكم سيدي..فالتفت إليَّ الملك عبد العزيز قائلاً:يا عبد الله اكتب لتشرشل:"وصلتنا برقيتكم الموقرة والجواب:نرحب بعبور الجيش البريطاني أرض بلادنا وستكون قواتنا السعودية بحمايته ورعايته حتى يصل بأمان الله إلى العراق ولكم تحياتنا / عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود"حقاً كان عبد العزيز قائداً ملهماً ومجدداً راشداً..أو هكذا أحسبه والله حسيبه.


حروب الشطرنج - 15

(حماقات مدمرة)

قصة سمعتها ورسخت في ذهني منذ طفولتي..يوم كنت أتسلل إلى مجلس والدي-يرحمه الله تعالى-وكبار القوم من أهل الديرة والعشيرة..أستمتع بسوالفهم وأشعارهم..القصة مفادها:أن رجلاً وزوجته ممن ضاقت أحوالهم كانا يعيشين في غرفة واحدة متعددة الخدمات..فهي لنومهم ومأوى دواجنهم..وهي مطبخهم ومغتسلهم ومخزن مؤنتهم..جلسا ذات يوم يحلمان بشراء بقرة يقتاتون حليبها..ويبيعون ألبانها وزبدتها..ويصطلون بروثها..ويستشفون ببولها..إنها كنز منافع ثري..وأطفالهم حولهم يستمتعون بكل فرحة وتلّهف لأخبار البقرة المرتقبة..ودخلا في جدلٍ أين يكون مربط البقرة في غرفتهم..؟واختصما وانتهت الخصومة بالطلاق والافتراق..وذهبت بهم رياح التخاصم إلى اسوأ مما كانا عليه..ودُمر البيت وازدادوا وأبناؤهم شقاء وعذاباً..إنها الأحلام الجميلة مع العقول الحمقاء السقيمة..أرى مثل هذه الحماقة تتكرر كل يوم مع أبناء مجتمعات الواقع العربي المرير..!فلكل مجموعة منهم وحزب وفرقة حلمها وطموحاتها..وكل منهم يسعى ليكون الأكثر حظاً والأعلى منزلة في غرفة الوطن الأسير المختطف..وهاهو الجدل بينهم يطول..وهاهي شبكة الصياد الحاقد الماكر توشك أن تطبق عليهم ليفتقدوا الأحلام ويضيع الوطن ويتفتت لا سمح الله..وفي رسالة سابقة تحدثت عن مثل هذه المخاوف..وذكّرتُ الجميع بمواقف الرشد لإمام الهدى والرشد صلى الله عليه وسلم في التعامل مع أحداث زمانه..واستحضرت منها مشاهد مثل قوله لمن جاء يقترح قتل عبد الله بن سلول رأس النفاق يقيناً لا ظناً:" فقال صلى الله عليه وسلم لا حتى لا يُقال أن محمداً يقتل أصحابه"وقوله لأهل مكة الذين عادوه وتآمروا على قتله:"اذهبوا فأنتم الطلقاء"بل سوى بين مكانة بيت زعيمهم أبوسفيان ومكانة الكعبة فقال:"من دخل الكعبة فهو آمن ومن دخل بيت أبي سفيان فهو آمن"أي عظمة وأي حكمة وأي زعامة راشدة هذه..؟وفي المدينة أنهى الخصومات وجمع الأشتات والأضداد فقال:"المسلمون من قريش والمسلمون من يثرب واليهود ومن تبعهم من الأعراب أمة واحدة من دون الناس"ومع مطلع التغييرات التي حدثت في بعض الأقطار قلت لمن استشارني من الفعاليات الحزبية والاجتماعية:"عليكم أن تتحولوا بأنفسكم من ثقافة الحزب إلى ثقافة الدولة..فالدولة أجل وأقدس من الحزب..وعليكم أن تستعدوا ليُغلبَ كلٌ منكم لِلآخر لينتصرَ الوطن..فانتصار الوطن هو النصر الحقيقي للجميع..وعليكم التحول بأنفسكم من الجدل حول من يَحكمُ..؟إلى الوفاق بشأن كيف نُحكم..؟"ولكن علة التحزب الإقصائي الدفين..حالت دون الحكمة والرشد إلا من رحم ربي..وها هي الأوطان في خطر ماحق..وهاهم ماضون يمارسون حماقة حلم اقتناء بقرة والعياذ بالله.

وسوم: العدد 680