ناجي العلي ..انتظار الوطن!
توفي رسام الكاريكاتير الفلسطيني العبقري ناجي العلي بعد شهر من اغتياله في 22 يوليو 1987، وخلف لنا أكثر من أربعين ألف رسم كل منها طلقة إبداع بريشة فنان عظيم. وإلي جانب ذلك ابتكرناجي العلي شخصية"حنظلة" الصبي الفلسطيني الصغير الذي تجرع المرارة حتى أدار ظهره للعالم، متطلعا إلي شيء مجهول بعيد. وعن حنظلة يقول ناجي:"ولد حنظلة في العاشرة من عمره، وسيظل دائما في العاشرة من عمره"! إنها السن التي ترك فيها ناجي العلي فلسطين ولم يعرف الاستقرار بعدها. وفي لبنان وهو صبي اعتقلته القوات الاسرائيلية فقضى معظم وقته يرسم على جدران الزنزانة. من الزنزانة من الزنزانة ومن طفولة ناجي المعذبة ومن قماش خيام المخيمات ومن المقاومة ومن الشعور الجارف بالوطن ولد حنظلة، بحيث لا نرى وجهه لكي نتساءل بلهفة:أي وجه لهذا الصبي؟ أمازالت على ملامحه براءة طفولة؟ أم أن شدة الظلم والكبرياء والمنافي قد دمغته بمرارة ترفع يشبه اليأس ويشبه الأمل؟! يطوي الموت نصف الفنان أما نصفه الآخر فيظل حيا فيما أبدعه. مازال ناجي حيا، وحنظلة أيضا مازال حيا، حتى بعد أن اغتال الموساد الاسرائيلي الرسام العبقري ليطفيء اللون في ريشته ويخمد اللهب من موقفه الذي لخصه ناجي بقوله:" في هذا الصراع علينا أن نصلب قاماتنا كالرماح ولا نتعب". بشخصية " حنظلة" أضاف ناجي العلي علامة إلي تاريخ الشخصيات الفنية والأدبية العالمية تقف على قدم المساواة مع شخصية المواطن الصغير المطحون الذي لا يفقد الأمل التي خلقها تشارلي شابلن، ومع شخصية " روميو" التي توجز العشق، وشخصية"دون كيخوت" المكافح الخيالي، وغيرها من الشخصيات التي أمست رموزا لمعني محدد ومفاهيم عامة دالة بفضل إحكام وعبقرية وجدة الخلق الفني وطابعه التعميمي. لقد وصف شابلن كيف ظل طويلا يتخير ملابس شخصية المواطن الصغير، وكيف بحث ليجد الجاكتة الفضفاضة والسروال الضيق والحذاء المضحك بمقدمته العريضة. وقد استطاع ناجي العلي أيضا أن يخلق حنظلة بما يميزه كشخصية فنية تتجاوز حدود مأساة الطفل الفلسطيني لتغدو رمزا إنسانيا عاما لكل طفولة تشردت. خلق ناجي العلي شخصية حنظلة من دون وجه، أخفى عنا وجهه ودموعه وغضبه، لكي يظل خيالنا مشتعلا بمحاولة تخيل ذلك الصبي. ويذكرني ذلك بما قام به المخرج فيكتور فليمنج في فيلم " ذهب مع الريح"عام 1939المأخوذ عن رواية مرجريت ميتشيل. في الفيلم تحل على البطل كارثة وفاة طفلته الوحيدة، والمعتاد في مثل هذه الحالات أن يرينا المخرج دموع الأب وعلامات حزنه، لكن المخرج على العكس من ذلك قدر أن أفضل وسيلة لنقل الأحزان هي بإخفاء وجه الوالد عنا تماما. تموت الطفلة فيندفع الأب إلي غرفة منعزلة فلا نراه ولا نشاهد وجهه. لهذا تحديدا يشتعل خيالنا من دون حد لتصور مدى حزن الوالد. طوى الموت نصف الفنان حين اغتال الموساد ناجي العلي، لكن نصفه الآخر " حنظلة " مازال حيا، ومازال يمشي كل يوم في صفوف الثائرين في فلسطين، ولا عجب ألم يوصيه والده ناجي العلي بقوله: " في هذا الصراع علينا أن نصلب قاماتنا كالرماح ولا نتعب". في ذكرى اغتيالك يولد في الجو عطر فواح من إبداعك ومن قلبك المزهو بحب بلادك والعامر بانتظار عرسها.
وسوم: العدد 680