ما للغبيِّ وللفوتبول يرفُسها؟!
ورغم أن أكثر ما اشتهر به الرفاعي عند غير المهتمين بالشعر، قصيدتاه: رسالة في ليلة التنفيذ (عن شاب ينتظر الإعدام، ويترجم مشاعره قبل أن يموت) و: نم يا صغيري (عن الأم التي سجن ولدها وعذب ثم قتل) وإسلامياته الأخرى وهي كثيرة، مجموعة في ديوانه الضخم الذي حققه المرحوم الأستاذ محمد حسن بريغش، إلا أن حياة هاشم الرفاعي رحمه الله تعالى كانت مملوءة ضحكاً وتنكيتاً و(هزاراً) حافلة بقصائد عامية مليئة طريفة، ملأى بالسخرية والقفشات الجميلة (لاحظوا أيضاً عصره وسنه).
ومن خلال الديوان كونتُ صورة عن الشاعر العظيم الذي فجعني موته في سنه الباكرة، كما أسعدتني قصائده العامية التي وضعت في آخر الديوان - وهي كثيرة - إذ رسم بها صوراً ضاحكة، ولقطات بارعة، أحسن توصيلها من خلال المفردات المصرية الشعبية العريقة، والصور الذهنية المثيرة للقهقهة لا للضحك فقط!
فـ «من وحي رحلة» سافر فيها طلاب معهد الزقازيق – وكان طالباً به - إلى الأقصر وأسوان، ألقى ذات سمرٍ قصيدة مليئة بالظرف والفكاهة، واللغة الأزهرية الطريفة، وفيها يسخر من الزي الأزهري الذي قيد حركة الطلاب أثناء الرحلة، ويسخر من محدودية النفقات المسموح بها، و(مَعْيَلة) بعض الأصحاب، وأخذ يهدد بأنهم إذا لم يحولوا الرحلة إلى رحلة حقيقية، فإنه سيشعلها ثورة عليهم:
أتيْـــتُ إلى هذه الرحلةِ أجرِّرُ أذيَـــالَ كاكولتي
وقيل ليَ: الزيَّ لا تنْسَـهُ فلمْ تنجُ رأسيَ منْ عَّمــتي
وقد لبس الكلُّ ما عنـدهمْ من البنطلـونِ إلى البـدْلةِ
وهأنذا بينكمْ قدْ ظهــرْ تُ حزيناً بهاتيكمُ البلْـوةِ
وما أنسَ لا أنسَ أمرَ الطعامِ وقدْ أوقعَ الكلَّ في ورطـةِ
لقدْ قتَّروا في مصاريفِنــا ومــا لايمونا على الفكَّةِ
إذا قلتُ: هاتوا لنا مأْكلاً يقولون: هلْ نحْنُ في ختْمةِ ؟
وها نحن لمْ نلْقَ زاداً لنـا سوى العيشِ والمِلحِ والجبنةِ
و«شاهينُ» جاءَ لنا عامِداً يُحَنِّسُنا اليومَ بالفرْخَــةِ
وراحَ يُقطِّعُها بيْننــــا ويبلعُ ما طابَ منْ لحْمـةِ
وما قالَ: هاشمُ .. خُذْ حتةً وقـد كنتُ نِفسي في حتةِ
فأُقسمُ إن لم يجيبوا لنــا لحوماً من الغدِ بالأقَّـــةِ
ويحصلُ طبْخٌ ولهْطٌ وشفـطٌ ونغرقُ في الدهنِ والفتَّـةِ
سنُعلنُها ثورةً لا تلــينُ وكمْ أشعلَ الجوعُ منْ ثورةِ!
والكاكولة - لمن لا يعرف - هي المعطف الأزهري الطويل، ولا أدري لماذا اختاروا لها هذا الاسم الغريب! هل كان مهارة في التسويق، من بتوع شركة كوكاكولا، أم لأن لابسها يشبه ( إزازة كاكولا، أم إن تصحيف أزهري لجبة القسيس Cloak وهو الأرجح عندي.... الله أعلم) ومعنى لايمونا: مَكَّنُونا، والفكة كناية عن الفلوس الكثيرة، والختمة هي قراءة القرآن كله بالأجر، وهي مهنة للفاشلين في الأزهر يرتزقون منها، ويحنِّس تعني يثير شهيتنا وطمعنا، وبقية المفردات حضرتك تعرفها قارئي العزيز!
ومن قصائده الضاحكة تلك التي أسماها: الخيبة الكبرى، ونظمها وهو في الثامنة عشرة من عمره (عام 1953م)، حين هُزم فريق معهده في مباراة كرة قدم، والمعروف عن الأزهريين في هذا العهد أنهم أبعد الناس عن الكرة، واللعب، والمرح، بل إن الضحك قد يكون في نظر كثيرين منهم من (قلة القيمة)! وقد نشأت أنا شخصيّاً - قبل ستميت سنة - في جوٍّ يرى أن (العيال البايظين بس) هم الذين يلعبون الكرة، وأن المستقيمين لا يعرفون إلا الكتاب والمسجد فقط (!) يا لهوي! طيب ازاي؟!
لهذا كانت قصائد الرفاعي تحفاً أدبية وثورة وريادة وفناً شعرياً بكل المقاييس! يقول لما عاد زملاؤه مهزومين في دوري الكرة:
يا خيْـــبةً قدّروها بالقـناطيرِ جاءتْ لنَـا في نهارٍ كالدّياجيرِ
إني ذهبْتُ إلـى النّادي فطالعَني مقطِّبَ الوجْــهِ مُغْبَرَّ الأساريرِ
يبكي ويندبُ مَـن خابوا بملْعبِهِ وفي المُـباراةِ صاروا كالطراطيرِ
من كلِّ شحْطٍ أطـالَ اللهُ قامتَهُ يكـادُ يصلُحُ في جَـرِّ الحناطِيرِ
ما كانَ مُنتظَراً هذا المُصَابُ لكمْ يا فـرقةً كوّنوها من خناشـِيرِ
ما للغـبيِّ وللفوتبـول يلعبُها يا ليْتهمْ علَّـقوكمْ في الـطّنـابيرِ
أخزاكمُ اللهُ قدْ جئـتُم لمعهِـدنا بالعارِ يا فتـيةً مثلَ المواجِــيرِ
في الماتْشِ لمْ تلْعبوا لكنْ رأيتكم في البُـرتقالِ نزلْتُمْ كالمناشـيرِ
لو كنتُ أعلمُ أنَّ الخيبةَ انْقَسَمتْ منْ حظِّكمْ في سِجلاّت المقاديرِ
لكنتُ جئـتُ بطبّالٍ يزفكمـو ورحتُ أتـلو على لحْن المزاميرِ:
لا بأْسَ بالقوْمِ منْ طولٍ ومنْ غِلَظٍ جِسْمُ البِغـالِ وأحْلامُ العصافيرِ
ولأن الشباب بلا خبرة، ولا لياقة بدنية، ولا حرص على الفوز، فقد تتابعت الهزائم، على معهد الزقازيق الديني من الفرق الرياضية الأخرى، وفي الرياضات كلها، فعاد الرفاعي لينظم قصيدة أخرى بعنوان (هزيمة):
تعال يا فريقُ هنا «تعـــالى» فذمُّكَ بيْننا أضْــــحى حلالا
لمنْ أُهْدي القصيدةَ؟ لستُ أدري أأُهديها حبيباً أمْ هـــــلالا؟
كِلا البطليْنِ فرقتُهُ تبَــــارتْ فما ساوَتْ لدى اللعْبِ العيــالا
لـنا في «الباسكتِ» اختاروا فريقاً يُحاكي في ضخامتِهِ البغَــــالا
وفي «الفوتبولِ» أفرادٌ تبَـــدَّوْا عِراضاً في ملاعبِها طِــــوالا
إذا ما صوّبوا كـــــرةً يميناً لخيـبةِ أمرهمْ طلعتْ شِمـــالا
وليْـس لهمْ بها علمٌ .. ولكِــنْ خَدُوها بالتلامةِ والــــرّذالا
أيصلحُ للـــرياضةِ فيـلُ قومٍ إذا ما سارَ تحسبُهُ الــــجبالا
يُحرِّكُ جسمَهُ المكتظَّ لحمـــاً ويحسبُ نفسَهُ فينا غَــــزالا
إلى المحـراثِ شدوهُـــمْ وإني سأفتلُ كـيْ نجرَّهمُ الحِبَـــالا
مفردات شعبية معرقة في المحلية، وصور فنية مملوءة ضحكاً وسخرية وخفة دم، وقد ذكرني بألفاظ مثل المواجير (جمع ماجور وعاء فخاري كبير للعجن) والحناطير (جمع حنطور، وسيلة ركوب شعبية يجرها حصان) والطنابير (جمع طريفة طنبور وهو آلة للري اليدوي) والخناشير (جمع خنشور وهو الرجل الجفر العتل) والقناطير، والشفط واللهط، والتلامة والرزالة، وفتل الحبال، وأجسام البغال!
الله يرحمك يا رفاعي ...
وسوم: العدد 683