عادل النادي : لا تبع قلبك !
لم أصدق الخبر في بداية الأمر . وحين تأكدت أنه حقيقي صُدمْتُ وتألمتُ وفزعتُ ورفعتُ يدي إلى السماء طالبا الرحمة بالعباد !
عادل النادي من المثقفين الحقيقيين الذين لم يدخلوا الحظيرة . كان يحترم نفسه وبلده وثقافته وتاريخه ، ويحلم بمستقبله ، وظل طويلا يواصل جهده في القراءة والمناقشة من خلال برنامجه "مع النقاد" الذي كان يقدمه عبر البرنامج الثاني بالإذاعة ( يسمى الآن البرنامج الثقافي ) . من يعرفون عادل النادي قلّة ، لأن المثقفين الحقيقيين قلّة . أغلبية شعبنا مشغولة بعبده موته وسلسال الدم ومهارشات العوالم والغوازي في برامج التلفزيون والمسلسلات والأفلام ، بالإضافة إلى المعارك الكلامية بين أنصار الأهلي ومشجعي الزمالك، ومقدمي البرامج الرياضية والليلية، ولذلك لا يعرفون مثقفا اسمه عادل النادي ؛ ينتمي إلى مملكة ماسبيرو المتوحشة !
عرفت عند كتابة هذه السطور أنه قرّر أن يبيع قلبه ليوفّر لعائلته بعض المال يكفيهم مواجهة الحياة فترة من الزمان ، بعد أن عجز عن توفير ثمن العلاج اللازم لنفسه بعد إصابته في حادث مؤلم أقعده وجعله ينفق ما يملكه ، ولم يجد عونا من المملكة المتوحشة التي ينتمي إليها ، ولا من السلطة المسئولة عن رعاياها!
أعلن عادل عن بيع قلبه السليم لمن يدفع !
والمفارقة أن العروض انهالت عليه من أطباء وتجار أعضاء بشرية ، مع القبول بكل الشروط التي تسبق تسليم القلب وتلحقه ، وينهي حياة الإنسان الطيب المهذب ، الذي يظنّ أن التخلص من الحياة بهذه الطريقة الغاضبة والمغضبة لله وملائكته ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والناس أجمعين قد تحل مشكلته ومشكلة أسرته وذويه . غضب أصدقاؤه ومحبّوه وحذّروه قائلين له : لا تفعل ، وتنادوا إلى البحث عن حلّ لمشكلة الرجل الإنسان .
في العقود الماضية شاركت في برنامج عادل النادي ، وحضرت بعض حلقات " مع النقاد "، وعندما تأثرت صحتي ووهنت الحركة وضعفت ، فضلا عن ابتعادي عن القاهرة ، غابت عنّي أخباره ، حتى فوجئت بالخبر الصادم الذي نقله بعض الناس عن الفيس بوك الذي لا أعرف التعامل معه .
عادل كان رجلا محترما ومثالا للخلق الكريم - ولا أزكيه على الله - ويملك فكرا راقيا متحضرا ، وهو ما جعله مختلفا عن سكان المملكة المتوحشة في ماسبيرو ، ولعل هذا هو السبب الذي جعل القوم يهملون علاجه ومساعدته..
لو كان عادل يفهم اللعبة جيدا ، ويعرف الطريق إلى المسئولين وأصحاب القرار في المبنى الحجري المطل على النيل الحزين ، ما وصل إلى ما وصل إليه من إحباط ويأس ورغبة في التخلص من الحياة ..
في الحظيرة الثقافية والإعلامية يلعب الشباب الصغير والكهول الكبار والعجائز الطاعنون لعبة الشقلباظ ، فيحصدون مكاسب متنوعة فضلا عن شيكات وخدمات بلا حصر . ولكن أمثال عادل النادي لا يعرفون هذه اللعبة التي تضم سماسرة وأفاقين ومرتزقة ودجالين وآخرين يتفقون على شيء واحد هو بيع الضمير أو التخلص منه تماما ..
لي صديق صحفي أديب قارب الثمانين وأجرى عملية جراحية في العمود الفقري كانت نتائجها سلبية مؤلمة ، وتردد على عديد من الأطباء الذين أجمعوا على سفره إلى الخارج ، فقررت له السلطة بعد جهد مبلغا لا يفي بتكاليف العلاج والمُرَافق الذي يُعاونه . له قرابة عامين يستصرخ المسئولين من أجل السفر وتخفيف آلامه ، ولكن القوم يضعون في آذانهم طينا وعجينا . كتب كثيرٌ من زملائه الصحفيين والأدباء يناشدون أولي الأمر إنقاذ الرجل ؛ ولكن أحدا لا يصغي ولا يسمع ، ولا أدري هل يواصل الاستصراخ أو ييأس ويحتمل . أوشكت أن أقول له : إن اللعبة تحتاج مهارات معينة أنت لا تملكها ..
المهارات تظهر عندما يمرّ سماسرة الثقافة والأدب والفكر بظروف صحية مشابهة . تنهض المنظومة السلطوية وتتنادى لإنقاذه ، فينقل على الفور إلى أفخم المستشفيات ، وإن لزم الأمر يسافر فورا إلى الخارج بالطائرة .. خذ مثلا : سمسار ثقافة لا يملك من الفكر والثقافة والأدب إلا قشورا ، ولكنه يمتلك قدرة على التسلق والوصول إلى صناع القرار . يحقق المذكور مكاسب مهمة يتاجر بها . مناصب صحفية أو ثقافية ، يروج بها لنفسه في مشرق الوطن العربي ومغربه ، يعرفه أهل السلطة والصولجان الذين يقوم صاحبنا بتلميع بيادتهم وأحذيتهم ليل نهار . يبارك طغيانهم على عباد الله ومذابحهم للأبرياء ، ونهبهم لثروات البلاد وأموالها . يداعب فيهم نرجسيتهم الظامئة للشهرة وحديث الناس ، حين يصيبه المرض تفتح الهواتف الخاصة لينقل إلى أرقى أقسام العلاج ، والعناية والرعاية ، وإن لم يُجْدِ العلاج عندنا ، فالطائرة جاهزة لنقله إلى عاصمة النور أو الضباب أو بلاد ناطحات السحاب ..
هذا منهج قديم ساد منذ الابتلاء بالحكم العسكري في 1952 . كنا نسمع عن نقل العوالم والغوازي والمشخصاتية بالطائرات ، سمعنا في زمن بعيد أن راقصة شهيرة أصيبت بالصداع ، فنقلوها إلى باريس ليعود الاتزان إلى رأسها الثمين ، وكم من مطربة وممثلة وراقصة وممثل وسمسار ثقافة وعراب فكر وكاتب تقارير ومخبر في التعليم والسياسة يحظى برعاية البيادة وكرمها وسخائها في مرضه وعافيته .
في بلاد العالم التي تحترم مواطنيها وتصون كرامتهم يتم علاجهم على نفقة الدولة إذا لم يكونوا قادرين على تكاليف العلاج ، وهناك دول تجعل من يتجاوز الستين محل عنايتها ورعايتها صحيا واجتماعيا وإنسانيا ، ولا أريد الإشارة إلى بلد مثل فنلندا التي قامت مؤخرا بتوزيع أموال غير مشروطة على مواطنيها جميعا لأن الفائض الاقتصادي كبير في خزانتها العامة . هل نقارن ذلك بالوحدات الصحية التي يذهب إليها الفلاح الفقير بحثا عن علاج فيدفع ثمن تذكرة من ثلاثة جنيهات إلى خمسة ، ويدخل إلى طبيب امتياز أو مبتدئ فيكتب له ورقة بها بعض الأدوية ليشتريها من الخارج لأن الوحدة ليس بها أدوية ، بل لا يوجد بها أبسط أنواع الإسعافات الأولية ، بينما السلطة العسكرية الحاكمة نفسها تدفع ما يسمى إعانة تصييف ( قضاء الصيف في الساحل الشمالي أو الشرقي ) لبعض الفئات التي تتقاضى رواتب عالية جدا ، قدْرُ هذه الإعانة ثلاثة شهور تشمل الأساسي وجميع البدلات !
المفارقة أن هناك مشروع قانون أمام برلمان مرجان يفرض ضريبة عشرة جنيهات على الفقراء والمعدمين وغيرهم من أجل علاج هذه الفئات المحظوظة جدا ، ومع ذلك تسمع أحدهم يقول : ما فيش حد غلبان !
عزيزي عادل النادي : أثق أن إيمانك وعقلك وفكرك سيبعد هذه الفكرة الدموية البشعة عن ذهنك ، وأن الله سيجعل لك مخرجا طيبا ، يعيدك إلى أحضان الثقافة البانية المضيئة .
الله مولانا . اللهم فرّج كرْب المظلومين . اللهم عليك بالظالمين وأعوانهم !
وسوم: العدد 683