حروب الشطرنج 22-23
حروب الشطرنج – 22
(نزعة الاتهام إلى متى ..؟)
من أمثال العرب(عنزة ولو طارت)..كتب أحد الإعلاميين مقالاً عن نجاح المسيرة التونسية..واختار حكمة الشيخ راشد الغنوشي أنموذجاً لها..وأشار إلى صلته ومعرفته القديمة بالشيخ راشد..ونقل مقتبسات من حديث أجراه معه في جدة..وذكر أحد أسئلته المحرجة(على حد تعبيره) التي وجها للشيخ إذاك:"يا شيخ راشد هب أنكم وصلتم للسلطة..ثم في الجولة الثانية صوت الشعب لحزب شيوعي أو علماني خالص..هل ستوافقون على حزب لا يؤمن بالله أو حزب يحارب الشريعة ويضادها..؟ فأجاب الشيخ:"نعم سنوافق"ويعلق الكاتب فيقول:"وبرأيي أن ثمة عوامل أوصلت الرجل إلى هذا الفكر والنضج السياسي..ربما كان من أولها وجوده في مهد الديمقراطية الحقيقية في بريطانيا لسنوات طويلة امتدت لعقدين"تأملت تعليق الكاتب وقلت:(ما فيش فايدة التهمة لاصقة لا صقة)..إن أساء المسلم ولم يحسن التصرف..قيل إنها تعاليم الإسلام وتعصب المسلمين..وإن أحسن التصرف وكان حكيماً وراشداً في أدائه..قيل هذا بسبب ما اكتسبه وتعلمه من ثقافة الآخر..وحضرتني كلمات قالها الشيخ راشد في مقابلة له مع الدكتور عزام التميمي في برنامجه مراجعات حيث قال:"صدقني يا أخ عزام أننا عندما كنا في تونس قبل المحنة والإبعاد..كنت دائماً أخشى أن نكون أصحاب الأغلبية في كل انتخابات نشارك فيها مع غيرنا من الأحزاب والتيارات التونسية..وذلك لاقتناعي بأن الأغلبية والهيمنة والتفرد بالحكم ليس من نهج العقلاء والحكماء"إذاً هي نزعة وتربية وثقافة قديمة في تكوين الشيخ ونهجه..أما من أين ..؟فالحكمة والرشد نعمة ومنة من الله لقوله تعالى:"وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً"والحكمة بكل تأكيد تزداد وتُكتسب بالتعلم والممارسة والخبرة لقوله تعالى:"وكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً "والشيخ راشد وباقي أعلام تونس وقياداتها من مفكرين وساسة وفقهاء..هم نبت بيئة ثقافية عربية مسلمة عريقة..هم عطاء الزيتونة والقيراون وعبق نتاجها الحضاري البشري الرائد..هم أحفاد ابن خلدون وابن رشد وابن حزم..هم أبناء الشابي وابن عاشور..هم أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين وأئمة الإسلام ومشاعل هدايته وتحريره..كفى يا قوم جلداً ومسخاً للذات..وكفى افتتاناً وتغنياً وإشادة بالآخر..نحن لا نبخس الآخر ولا نحتقر الآخر ولا ننكر إيجابيات الآخر..ولكن الفرق كبير وكبير جداً..بين الاعتراف بإيجابيات الآخر واستلهام تجاربه والتعاون والتنافس معه في التطوير والتجديد والارتقاء..وبين إلغاء الذات واستغباء الذات واحتقار الذات ونفي الذات لصالح الآخر وتعظيم سيئه وحسنه على السواء..!أجل كفى يا قوم..!وإلى متى يا قوم..؟ألا من عودة راشدة لفهم أنفسنا وفهم الآخر..؟ ألا من بناء ثقافة متوازنة..؟نتكامل ونتعايش ونتنافس بها مع الآخر من غير إفراط ولا تفريط.
حروب الشطرنج – 23
(تكامل الدين والدولة)
فقه المقاصد فتح آفاقاً فقهية جليلة واسعة للمسلم..وذلل عقبات جسيمة أمامه في التعامل مع الآخر..إلا أن فقه المقاصد أسيء استخدامُه مما فتح باباً واسعاً للتأويل المفرط..واتخذه بعض المسلمين مُتكأ لتعليل اجتهادات مضطربة شاذة في التعامل مع الآخر..وهكذا فالمسلمون اليوم فريقان..فريق آخذٌ بتوسيع باب سد الذراع جاعلاً منه سداً منيعاً..حابساً الناس خلفه عن كثير من الخير تحوطاً وتخوفاً من الوقوع بالشر..وفريق آخذٌ بتوسيع باب المقاصد جاعلاً منه مرتعاً مباحاً..تتدفق إليه أفواج من المؤولين والمجتهدين من غير قيد ولا شرط..وهذا ما جعلني أتأمل هذه الحالة التي تتقاذف مسيرة المسلمين اليوم ما بين الإفراط والتفريط..سعياً عن مخرج يعيد للأمة منهجها المتوازن بين المقيد والمطلق..وبين الخوف والرجاء..فوجدتني أتأمل قول الله تعالى:"إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً"وقوله جلِّ شأنه:"وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا"وقوله تباركت أسماؤه:"لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ"وقوله سبحانه:"هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ"وقوله تعالى:"وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ"فهذه الآيات وما يتسق ويتكامل معها من آيات القرآن الكريم والسنة النبوية المحكمة..تشكل منظومة متكاملة لمفهوم الاستخلاف الرباني للإنسان في الأرض..ومن قبل قلت:أن الدين يتكون بشكل رئيس من:عقيدة وشريعة ورسالة حياة..فالعقيدة وما يتعلق بها من شرائع هي من الخصوصيات الدينية والروحية للإنسان..ورسالة الحياة وما يتعلق بها من شرائع هي من المشترك الإنساني لتحقيق مهمة الاستخلاف في الأرض..وحصل تداخل مخل بين وظائف دائرتي العقيدة والرسالة أفرز تطرفاً وغلواً..تطرفٌ حبس الناس في أروقة المعابد وأدار ظهره للحياة ورسالتها وتكاليفها..وتطرفٌ أدار ظهره للعقيدة والمعابد ودفع الناس نحو الحياة وتكاليفها بغير ضوابط..وحسم الغرب أمره فأعلن مقولته:"فصل الدين عن الدولة"وأنهى بذلك جدلية الصراع بين المعبد والسوق وتخفف من أعبائها..واتجه للسوق بكل اهتماماته وأنتج وتحسنت أحواله المادية ونهض بمسيرته الدنيوية..ولكنه أدرك فيما بعد أن مسيرته غير آمنة مع تجاهل أخلاقيات العقيدة وسلوكياتها الوجدانية..فلجأ إلى ابتكار ما سماه القوانين الأخلاقية..والتي لم تكن بحقيقتها إلا عودة للقيم الدينية من بوابتها الخلفية..والإسلام من البداية أكد التوازن بين المادة والروح..وبين العقيدة والرسالة..وبين محاريب السوق ومحاريب المسجد لقوله تعالى:"مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا "وأكد أن الحيد عن هذه التوازنية سيدفع بالمسيرة البشرية نحو الخلل والانتكاسة لا محالة لقوله تعالى:"وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا"أجل..نحن بحاجة إلى تجديد توازنية منهج الإسلام في حياتنا..وأن نتجنب التداخل المخل بين مهمة العقيدة وشرائعها السلوكية..وبين مهمة الاستخلاف في الأرض وشرائع أدائها الحضاري.
وسوم: العدد 683