هذه البنية الراسخة ومسلّماتها
لعل من ادق التعريفات التي يمكن بها الاقتراب من معنى الديمقراطية على نحو ما يخلص اليه المتأمّل في السياسات الغربية، ولا سيما الاميركية هي «تحقيق مشيئة القوى ذات النفوذ والتي تشكلها الثوابت الظاهرة والخفية التي لا تتغير مع الأيام»، ولا يَغُرنكم ما يتبدى من صراع الجمهوريين والديمقراطيين في أميركا، ولا صراع الاحزاب الأوروبية، فهو لا يؤثر في ثبات نظام القوى الراسخ الذي يفرض مشيئته في كل الاحوال.
اما نظام القوى الراسخ في الغرب، فهو وان اختلفت حيثياته من بلد الى بلد، مستقر على جملة مُسلّمات شعورية ذات طابع تبريري، تزوده الانتليجنسيا (النخب الفكرية والاكاديمية والمستشرقون وخبراء السياسات الخارجية) بالافكار والمقولات والتعلاّت..
من هذه المسلمات ان الغرب هو مركز العالم، وان بقية العالم اطراف، وان انسان الغرب هو الجدير بالحرية والكرامة وان بقية البشر لا يستأهلونها. وان المرجع الاعلى في السياسات هو القوة لا الاخلاق.
يضاف الى ما تقدم توافق ارادات القوى الغربية على محاربة الاسلام وقهر العرب والمسلمين، والعمل الدائب على ان لا تكون لهم كينونة يمكن ان تحول بين الاسرائيليين واحلامهم في السيطرة على المشرق العربي الاسلامي.
ولا تعارض هذه القوى في ان تنشأ ديمقراطيات منتحلة (غير اصيلة حتى بالمقاييس الغربية) في شتى اقطار العالم ولكن شريطة ان لا تمثل هذه الديمقراطيات بحق ارادات الشعوب، وان تظل ديمقراطيات تابعة او موظفة في خدمة السادة (!) في الشمال او الغرب او حيثما يكونون..
انها ديمقراطيات اداتية لا تمانع هذه القوى في قيامها. حتى اذا اتفق ان قامت واحدة منها على أُسس سليمة (حتى بمقياس الغرب نفسه وفي ضوء تجاربه) فانها مرشحة للسقوط من اقرب سبيل.
وان مما يعجب له المرء ان ينتفض بعض فلاسفة اوروبا على البنية العقلية السائدة فيها – كما نجد مثلا في جماعة فرانكفورت والوضعيين المناطقة – دون ان يقدموا من «نظام القوى» هذا قيد انملة. كما ان مما قد يكون موضع تأمل ان كارل ماركس – ولعل ذلك عائد الى كونه يهوديا – كان يعتقد بان الشعوب خارج اطار المركزية الاوروبية/الغربية اقل شأنا من أن يباشروا شؤونهم بأنفسهم (انظر كتاب «الاستشراق» لادوارد سعيد)!!.
ومهما يكن الامر فاننا لا نعدم من ينغضون اليك برؤوسهم قائلين: وما البديل إذن؟.
وهو سؤال بقدر ما يعكس حيرة سائله وتلدّده فانه يعكس قصور وعيه او استلابه او ذهوله الذاهل امام أنموذج من التفكير تبدت فيه الشروخ، ويوشك واقع الانسانية – ولو بعد حين – ان يجعله وراءَه ظهريا.
وسوم: العدد 684