ذاكرة مبعثرة.. ايام مع سالم جبران - 3
يوميات نصراوي:
لم اكن عدائيا، ولن أكون عدائيا في نقاشي الفكري والسياسي مع بيتي القديم (الحزب الشيوعي والجبهة الديمقراطية) وبعض شخصياته ، بل من منطلق المسؤولية التي شكلت قيمة خاصة في نهج حياتي. نقاشي الفكري معهم لم يتوقف اليوم أيضا، لا أناقشهم من منطلق نفيهم، بل من منطلق رؤيتي ان هذا الجسم قادر ان يجدد نفسه ، او يتسارع للتحول الى جسم سياسي ثانوي.. وهو الاتجاه الطاغي اليوم.
ليس سرا اني عندما شعرت ان قوى الظلام والماضوية تهدد مصير مدينتي ( الناصرة) لم انتظر دعوة للتجند النضالي والإعلامي دفاعا عن مدينتي، برؤيتي ان قائمة الجبهة (الحزب الشيوعي) يجب ان تنتصر وإلا ضاعت هذه المدينة التي نحبها ونريد ان نراها تواصل التطور وتحمي مجتمعنا المدني الحضاري من السقوط ببراثن الطائفية. قناعتي كانت انه على الناصرة ان تواصل تحمل مسؤولية قيادة الجماهير العربية بمكانتها السياسية كعاصمة الجماهير العربية وتقديم نموذج يحتذى به في إدارة شؤون السلطات المحلية.
لم ار جسما سياسيا بلديا مؤهلا لهذا الدور غير الجبهة آنذاك.
في احدى المعارك الانتخابية لبلدية الناصرة(2003)وجهني سالم جبران نفسه، وكان محررا لصحيفة "الأهالي" نصف الأسبوعية، لإجراء مقابلة مع رئيس البلدية ومرشح الجبهة لرئاسة بلدية الناصرة المهندس رامز جرايسي، نُشرت المقابلة بملحق خاص أرفقناه بجريدة "الأهالي" امتد على مساحة الصفحة الأولى وصفحتين داخليتين. حولنا الأهالي الى منبر إعلامي لتسويق قائمة الجبهة، بل ورفضنا نشر إعلانات لقائمة منافسة، أقنعنا صاحب الجريدة (علي دعيم من مدينة سخنين) ان يتصل برامز جرايسي (رئيس البلدية وقتها ومرشح الرئاسة) ويبلغه بموقفنا ، وان يغطي لنا الإعلانات التي رفضنا نشرها لمرشح قائمة منافسة، بإعلانات أخرى لقائمة الجبهة. أي لم نستطيع ان نحافظ على كوننا صحيفة تجارية مستقلة، ولي عودة (بحلقة مستقلة) لتلك المرحلة بحادث هام كان ممكن أن يغير الكثير من الحساسيات والضغائن ويخلق جوا من التفاهم والعلاقات على المستوى الإنساني والحزبي مع سالم جبران، وبما سيكون لذلك من خلق أجواء ايجابية قد تعيد الكثير من القوى الى صفوف الحزب الشيوعي والجبهة..
نعود الى سنوات العقد الأخير من القرن الماضي...
في العام 1998 اذا لم تخني الذاكرة بدأت أنشر سلسلة مقالات عن انتخابات البلدية القادمة، وفتح لي رئيس تحرير صحيفة الحزب الشيوعي "الاتحاد" ( الأستاذ نظير مجلي) الباب لنشر مقالاتي، نشرت عددا كبيرا من المقالات تميز أكثريتها بالكتابة الساخرة عن القوائم البلدية المنافسة للجبهة، انتقد سالم جبران بعض التعابير في مقالاتي التي رأى انها عنيفة جدا وقاسية جدا وانه لو كان رئيسا للتحرير لحذف بعض جمل مقالاتي او حذفها كلها. أثارت تلك المقالات اهتماما واسعا من القراء ووصلتني عشرات الاتصالات المؤيدة والشاكرة لهذا النشر!!
اريد ان أقول اني لا اكتب مذكرات عن سالم، إنما أسجل مرحلة عايشتها. لا اكتب تاريخ خاص، انما معاناة عشنا مفارقاتها بين كوننا مخلصين لفكر سياسي وفلسفي واضطرارنا لخوض معاركنا لصالحه ، من خارج صفوفه ومن خارج إعلامه لاحقا.. رغم كل ما لحقنا من أذى شخصي.
نشطت مع الجبهة في الناصرة دفاعا عن مديني اولا.. كنت التقي سالم أسبوعيا في مرافقتي له في ندواته. اهتم بمقالاتي التي أنشرها بمعدل مقال او مقالين أحيانا كل أسبوع في جريدة الحزب اليومية "الاتحاد". استفدت من ملاحظاته ويجهل القراء وأعضاء الحزب بالتأكيد، ان بعض مقالاتي التقطت أفكارها من سالم نفسه. كان ظن البعض اني انسحبت من "معسكر سالم" . الذي لم يكن له وجود الا في المخيلات المريضة. بل ذهب البعض للظن ان بعض تعابيري هي انتقاد لسالم جبران فأضحكوني بسطحية فهمهم ومحدوديته.
استدعاني في أحد الأيام عضو مكتب سياسي للحزب من قيادة منطقة الناصرة، كان الحديث بيننا ان أجدد عضويتي في الحزب الشيوعي. قلت أخاف ان تكون بعض مفاهيمي الماركسية تختلف عن مفاهيم الحزب. قال الحزب لا يمنع الاجتهاد والنقاش وهناك ضرورة لشخص مثقف مثلي للحزب.
عضو في اللجنة المركزية من الناصرة ، تسلم مهام حزبية وبلدية مختلفة، وهو من رفاق الشبيبة الشيوعية في الناصرة في فترة قيادتي لها، قال لي:" اني لن اجد الحزب الذي اعرفه ونشأت في صفوفه ونصحني بعدم التسرع في الانضمام".
عضو المكتب السياسي اصر وقال انه سيكون المعرف لي. رفاق سابقون لي ابدو حماسهم وقولهم ان الحزب والفرع بحاجة لي لإحداث انطلاقة شبيهة بما أنجزناه سوية في الشبيبة الشيوعية في الناصرة في فترة قيادتي لها.
قدمت بعد تردد طلب انتساب للحزب الشيوعي، بل ونشرت مقالا بعنوان "طلب انتساب" في صحيفة الحزب الشيوعي "الاتحاد" دعوت عبره الرفاق المبعدين والمبتعدين للعودة الى صفوف حزبهم... كانت لمقالي ردود فعل طيبة من رفاق قدامى اعرفهم من مختلف مناطق الحزب سارعوا للاتصال معي وتهنئتي قبل الأوان.
بعد أشهر طويلة جدا (!!) من نشاطي في الجبهة والكتابة في الاتحاد، مقالا أسبوعيا على الأقل ، وأحيانا كثيرة مقالين ثقافي وسياسي ، جاء رد فرع الناصرة على لسان سكرتير الفرع ، بأن "اللجنة المحلية قررت تجميد البحث بطلب تجديد عضويتي في الحزب الشيوعي "(!!) قلت لسكرتير الفرع اني ارتكبت حماقات كثيرة في حياتي وهذه أكبرها. شكرا لأن القرار جاء منكم!!
انسحبت بقرف شديد ، ضاحكا على سذاجتي وطيبة قلبي!!
رغم ذلك في كل معركة انتخابات للبلدية في الناصرة وقفت الى جانب الجبهة بكل قوتي الإعلامية والتسويقية. ليس سرا اني تعرضت مرات عديدة للتهديد المباشر ، أحدها وصل للشرطة ولم يتصل بي الذين دافعت عنهم ليطمأنوا على حالي. بل بدأوا يقاطعون نشر مقالاتي الانتخابية، رغم انها لصالح قائمة الجبهة وهم اعجز من أن يكتبوا أفضل منها في إعلامهم الالكتروني او المطبوع. في الانتخابات الأخيرة التي جرت عام 2014 وخسروا فيها رئاسة البلدية، دعمتهم اعلاميا وانتخابيا، رغم ذلك واصل إعلامهم الحزبي مقاطعتي الكاملة، انتقدت مقاطعتهم بحدة، فاضطر مسئولي الجبهة بإيعاز من رامز جرايسي الى عقد اجتماع معي والتدخل مع "الاتحاد" لتبدأ نشر مقالاتي. نشر مقالا واحدا ثم توقف النشر. حافظت على صمتي رغم غضبي حتى نهاية المعركة الانتخابية، حينها كتبت مقالا حادا ضد عقلية المقاطعة المريضة التي لا تختلف عن الانتحار الذاتي ، خاصة بعجزهم هن كتابة مواد تسويقية بمستوى ما اكتبه او ما دونه، وكل نشاطهم لا يتجاوز التغطية الاخبارية. . تدخل مسئولي الجبهة في الناصرة مرة أخرى ، ويبدو ان الجليد قد ذاب ، فبدأوا ينشرون لي ، وأظن ان هزيمتهم أمام علي سلام ، الذي كان جزءا من الجبهة لكنهم تآمروا عليه بالغرف المغلقة فاضطر لخوض الانتخابات بقائمة مستقلة، وفاز على مرشح الجبهة ورئيس البلدية رامز جرايسي بأكثر من (11) الف صوت، افقدتهم توازنهم وعنجهيتهم الفارغة، واعادتهم الى حجمهم الطبيعي.
بدأوا بعدالهزيمة ينشرون لي أسبوعيا وأحيانا مرتين كل أسبوع. لكن بعد أسابيع قليلة انتهى شهر العسل وتجددت المقاطعة. سألني عضو في لجنة منطقة الناصرة للحزب الشيوعي وصديق شخصي عن سبب توقفي من الكتابة في الاتحاد، أعلمته ان مقاطعتي تجددت. قال انه سيفحص الموضوع. بعد ايام التقينا، كان غاضبا. قال بوضوح انه تلقى جوابا أغضبه. قلت اعتقد اني ارتكبت حماقة بدعم الجبهة في المعارك الانتخابية منذ استقالتي من الحزب والجبهة عام 1993، كان يجب ان أكون أكثر حزما. أصررت ان اعرف جواب الاتحاد. بعد تردد قال ان محرر مسؤول في الاتحاد (لا ارى أهمية لنشر اسمه) ابلغه ان "السبب هو فرع الناصرة وان الاتحاد لا تستطيع رفض طلب فرع الناصرة لأنه "ز... نمر" كما قال. ثم علمت ان الفرع يتهمني بان اعمل مع مكتب نتنياهو بتجنيد الشباب المسيحيين في الجيش الاسرائيلي وان 12 عضوا هددوا بالاستقالة من الحزب اذا واصلت الاتحاد النشر لي!!
مثل هذا الحزب وهذا الاعلام الحزبي.. الدفن المبكر اشرف من استمرار استفحال التسهايمر بعقولهم!!
********
عودة الى التاريخ: علاقتي بجريدة "الاتحاد" تتوقف أيضا
بعد استقالة سالم جبران من كافة مهامه الحزبية، استلم رئاسة تحرير جريدة "العين" التي صدرت في الناصرة. دعاني للكتابة ، لكني اعتذرت بسبب علاقتي مع الاتحاد.. قال لي : "يكفيك دروس الماضي" . لم أقتنع، لكنه كان صادقا.
استلم رئاسة تحرير "الاتحاد" في تلك الفترة المرحوم أحمد سعد. لم تكن مشكلة في النشر. علمت ان المحرر الثقافي للجريدة في طريقة لترك الاتحاد والانتقال الى حزب سياسي آخر والعمل في صحيفته وحل محله محرر ثقافي جديد.
لسبب لا افهمه توقفت الاتحاد عن نشر نصوصي الأدبية.. كنت قد أرسلت مراجعة نقدية لديوان "انا هو الشاهد" للشاعر الشيوعي حسين مهنا. مضت أسابيع وشهر وشهرين ولم ينشر المقال. نُشرت مراجعات أخرى عن نفس الديوان لآخرين وكانت بمستوى سطحي جدا. اتصلت مع حسين مهنا وأرسلت له المقال. شكرني بقوله أنها أفضل مراجعة نقدية تكتب عن ديوانه وانه اتصل مع محرر الاتحاد وطلب نشر المادة في عدد يوم جمعة.
ولم تنشر المادة.
كنت اكتب خلال تلك الفترة مقالا سياسيا أسبوعيا وينشر. ليس سرا ان نبيل عودة كان الأكثر نشاطا ونشرا في الصفحة الأدبية يوم الثلاثاء والملحق الأدبي يوم الجمعة. لم افهم سبب مقاطعتي الثقافية في الاتحاد.
تحدثت مع رئيس التحرير المرحوم احمد سعد . قال انه ينشر لي كل أسبوع. شعرت بأنه يهرب من موضوع مقاطعتي في الصفحة الثقافية. قلت اني أشكره ولكني استغرب مقاطعتي في الصفحات الأدبية. قال انها ليست بمسؤوليته (؟؟!!) ووجهني للمحرر الثقافي . تحدثت مع "المحرر الثقافي". كان رده سخيفا وصبيانيا وغبيا وبلا ذرة احترام لنفسه. قال ما معناه:" ان مقالاتي الأدبية لا تلائم بالضبط صفحات الاتحاد الأدبية ..". قبل ان يشرح "نظريته الثقافية كمحرر أدبي بلا عقل أدبي" أغلقت خط التلفون و"أغلقت" علاقتي مع "الاتحاد".
عدت الى سالم جبران في صحيفة "العين" شاعرا باني ارتكبت بحقه غلطة كبيرة. ولكنه بدماثته واتساع صدره لم يشعرني اني ارتكبت غلطة بحقه. أعلمني انه وصلته معلومات تفيد ان عدم النشر لي تقف وراءه أسماء ضايقها ان يحتل نبيل تلك المساحة الثقافية والإعلامية الواسعة في صحيفة الحزب خاصة وان له تاريخ في نقدهم منذ استقال من الحزب عام 1993 وانتقد قائمة الكنيست وقتها.
وصلني فيما بعد اتصال من "عليم" بكواليس الاتحاد يعلمني باسم واحد على الأقل كان غاضبا من تخصيص الصفحة الأدبية بهذه الكثافة لنبيل عودة. تأكد هذا الأمر حين عملت مع سالم في صحيفة "الأهالي"، اتصل نفس الشخص ليرسل مادة أدبية، لكنه طلب من سالم أن لا تكون لنبيل عودة علاقة بمادته. فرفض سالم طلبه مؤكدا ان نبيل عودة هو محرر الصفحة الأدبية وهو المقرر بالنشر.
مراجعتي عن ديوان الشاعر الشيوعي المبدع حسين مهنا نشرتها في صحيفة "العين" ، وبدأت انشر اسبوعيا في العين .
ملاحظة:
هذه التسجيلات او المذكرات ، ليست عن سالم فقط، ولكن سالم يشكل في حياتي علاقة وطيدة استمرت بدون توقف منذ التقيته عام 1962. كانت علاقاتنا مفتوحة لم يفرض علي رأيه او مواقفه، حتى في عملي معه في جريدة "الأهالي" التي رأس تحريرها كان نقاشنا ليبراليا ولم يفرض رأيه على ما انشر.
كثيرا ما رد على مقالاتي بأسماء مستعارة في نفس الجريدة. كان يقول لي انه سعيد لأني أطور رأيا شخصيا وأصر عليه وان الإنسان الذي يكتفي بنقل آراء الآخرين سيجد نفسه في وقت ما بلا رأي وبلا تفكير. للحقيقة والتاريخ أعترف اني تأثرت حتى النخاع بأسلوبه، طريقة تفكيره، تحليله للأحداث وأسلوب حديثه مع القوى السياسية اليهودية . استفدت منه على المستوى الفكري، أظن ان اتجاهاتي الجديدة في الرؤية الخاصة للطروحات والنظرية الماركسية والفلسفية عامة، تطورت بفضل حواراتنا الطويلة ولا اقول اننا كنا متفقين على جميع ما كنا نطرحه. سالم مثلا لم يسقط من حسابه موضوعة الطبقات والصراع الطبقي وأنا رؤيتي ان مجتمعاتنا الحديثة تجاوزت تلك المفاهيم وان أنواع الصراع اليوم اختلفت جذريا وتغيرت مهامها الاجتماعية. كانت رؤيتي ان مواصلة تحليل المجتمع بنفس الطريقة الشيوعية الكلاسيكية أصبحت عبثية. كان يقبل ان هناك تغيرات جذرية ولكن الأسس للمفاهيم الطبقية ما تزال ثابتة. من هنا انا لا اكتب مذكرات عن سالم مباشرة، ليس كل ما اكتبه هو موقف سالم جبران ووجهة نظره، لكن سالم شريك حتى بنقده لنشاطي الفكري والإعلامي والإبداعي، الأمر الذي دفعني "كطالب نشيط" في جامعة اسمها سالم جبران، لتطوير أدواتي، عبر القراءات الفكرية والمهنية الواسعة والبحث والتفكير قبل ان اخط حرفا واحدا. مواقف سالم يجدها القارئ بدقة في مقالاته التي تحمل توقيعه والتي نشرها في "الأهالي" والعديد من الصحف والمواقع الالكترونية في العالم العربي، خاصة في العقد ونصف العقد الأخيرين. ما أنشره في هذه المراجعات هي مواقف نبيل عودة ووجهة نظره فقط !!
وسوم: العدد 684