حبيبة القرضاوي
لا شك أن المشايخ – ككل الناس – يحبون، ويكرهون، ويموتون في دباديب الجميلات، وقد يستبد العشق ببعضهم حتى يسهر الليل، ويكتب قصائد الغزل، ويجتهد في اختلاس نظرة من حبيبة القلب – أو الألب – هذا طبعاً أيام كان الحب نظيفاً، والحبيب أحرص على (البت بتاعته) من الهوا الطاير، وليس حب هذه الأيام التي لا يصبر فيها الغلام عن سرقة حبيبته بأي شكل من أشكال السرقة.. أو تسقيه هي (حاجة صفرا) لتتمكن منه، وتورطه في حبائلها..
اسمح لي أن أبدأ بقصة حب عاشها رجل لا تتخيل أن عنده فراغاً للحب، والأشواق، وأفلام الغزل، وشغل الدونجوانات، لكنه.. فعلها..
إنه مولانا القرضاوي، الذي وقع في حب شابة صعيدية – حتى مش من حتته كمان - قبل نحو خمسين سنة، وأعتقد أنه لا يزال يحب بطلة قصته حتى الآن، رغم أنه تزوج، وأنجب ما شاء الله نجباء، وكاد أولاد أولاده أن ينجبوا، وهو لا يخفي ذلك ولا يتردد في إعلانه، حتى يومنا هذا..
آسرة قلبه كانت أنثى قناوية - أو قنائية كما يتفذلكون - تعلق قلبه بها، فكتب فيها قصيدة لطيفة طريفة، يعبر فيها عن هيامه، فاقرأ معي واستمتع، وأرجوك لا توصل المسألة للشيخ حتى لا (يأخذ على خاطره مني؛ وتبقى داهية):
أنثى تروق أخا الهيام حسناء فارعة القوام
جسمٌ رشيقٌ .. زانه عنقٌ حكى عنق النعام
جذابةٌ تغريك طلـــ عتُها، فتدنو في اهتمام
وتحس أن لقاءها يشفي الصدور من الأُوام
وإذا حُرمت القربَ مِنـــ ـــها فالجوانح في ضرام
عُرفت بطهر القلب لم يعلق به خبثُ اللئام
ينبيك ظاهرُها بما في قلبها.. وبلا كلام
بنت الصعيد.. كريمة من طينة القوم الكرام
قنوية.. لكنها بَيـــــ ضاءُ كالبدر التمام
قنويةٌ خلعت عبا ءتها وألقت الاحتشام
وكأنها بنت الزما لك في السفور والاقتحام
ثارت على قعر البيو ت فلا تحب بها المقام
إلا إذا هجم الشتا بالبرد يصحبه الغمام
حتى إذا ولد الربيـــ ــعُ مع الزهور والابتسام
ودنا هجوم الصيف أعـــ جبها الخروج على الدوام
فبدت من الشرفات ضا حكةً تجاذبك الغرام
لا تستحي من وافدٍ يرنو إليها باهتمام
فإذا دنا منها دنت فو راً.. وأسلمت الزمام
ليست ترد يداً تُلا مسها.. ولو كفي غلام
تلقاك في وضح النهار وإن أردت ففي الظلام
فإذا اقتربت تريدها وتروم منها ما يرام
أفضت إليك بصدرها دون امتناع أو خصام
وحَبَتك فاها العذبَ تلـ ثِمُه ولا تخشى الملام
وتحوط كفُّك خصرَها وهي المطيعة في سلام
والناس حولك ينظر ون يهنئونك باحترام
ومن العجائب أنها لتُحَب من كل الأنام
حتى التقيِّ المستقيــ مِ بها تعلّق واستهام
ما كفه عنها تقاه ولا نهاه أن استقام
لا لا تسيئوا الظن فهـــ يَ طهورة طهر الغمام
كلا ولا عَرفت خنا أو نالها – يوماً - أثام
قنوية لكنها رقت كأقداح المدام
هي لا تحب سوى العشيــ ــــر أخي التلطف والوئام
إن لم تعاملها برفق قد يفاجئها السقام
ولربما منيت بجرح لا يكون له التئام
والكسر فيها ليس يجـــ ـــبره نطاسيُّ العظام
ولَرُبَّ عنفٍ قد يعر ضها لأن تلقى الحمام
ماذا دها بنت الكرا م! ومن رماها بالسهام؟
كانت فتاة الحي ليـــ ـــلى كل قيس مستهام
ليست تنافسها هنا لك (مُدْمَزيلٌ) أو (مدام)
واليوم قد أضحت تنا زعها بنات العم سام
هذي هي الدنيا فليـــ ــــس لكائن فيها دوام
أعرفت من أعني؟ لعلـــ ـــك قد فهمت من المقام
قل لي: "أبنت قنا" ترى أم يا ترى بنت الحرام؟
عرفت طبعاً قارئي الكريم تلك الأنثى التي هام بها القرضاوي ولا يزال..
ما عرفت؟ ألم تفهم شيئاً من حديثه عن العنق، والطينة، وعن بروزها في الصيف، والكسر الذي لا يجبر، وعن بنات الحرام بنات العم سام؟!
فأما بنات العم سام فهن الثلاجات، وأما القناوية التي سقط القرضاوي في غرامها فهي القلة الفخارية المصنوعة في قنا بصعيد مصر، والتي يعرفها كل من عرف مصر، وهي نفسها اللي بيكسروها ورا الضيف غير المرغوب فيه علشان ما يرجعش، والتي غنى لها سيد درويش طقطوقة مذهبها: (مليحة جوي الجلل الجناوي/ رخيصة جوي الجلل الجناوي/ جرب حدانا وخد جلتين(والتي اعترض فيها نجيب سرور على البحر الذي يضحك للفلاحات الرشيقات، وهن ينزلن للماء متدلعات ليملأن القلل (مش عارف ازاي) فقال في قصيدته السوداوية الساخرة "البحر بيضحك ليه":
البحر بيضحك ليه وأنا نازلة أتدلع أملا القلل/
البحر غضبان ما بيضحكش.. أصل الحكاية ما تضحكش!/
البحر جرحه ما بيدبلش.. جرحنا ولا عمره دبل!/ البحر بيضحك ليه.. وأنا نازلة أتدلع أملا القلل!
مساكين بنضحك م البلوة.. زي الديوك والروح حلوة/ سرقاها م السكين حموة/ ولسه جوا القلب أمل!/ البحر بيضحك ليه.. وأنا نازلة أتدلع أملا القلل!
قللنا فخارها قناوي.. بتقول حكاوي وغناوي/ يا قلة الذل اللي أنا ناوي .. ما أشرب ولو في الميّة عسل/ البحر بيضحك ليه.. وأنا نازلة أتدلع أملا القلل!
ياما ملينا وملينا.. لغيرنا وعطشنا سقينا/ صابرين وبحر ما يروينا.. شايلين بدال العلة علل!/ والبحر بيضحك ليه.. وأنا نازلة أتدلع أملا القلل!
في بالي يا ما وعلى بالي.. وإللي بيعشق ما يبالي/ ما يهمنيش من عزالي.. يا حلوة لو مرسالي وصل!/ والبحر بيضحك ليه.. وأنا نازلة أتدلع أملا القلل!
بيني وبينك سور ورا سور.. وأنا لا مارد ولا عصفور!/ في إيدي ناي والناي مكسور.. وصبحت أنا في العشق مثل!/ والبحر بيضحك ليه.. وأنا نازلة أتدلع أملا القلل!
بقي أن تعرف قارئي أن القُلل من الموضوعات المفضلة للرسامين الشعبيين في مصر، وأن أخوات القلة هم: المحلبة، والأبريق، والحِ ب، والزير.. وبس!
وبقي أن تعرف أن الشاعر الكبير أحمد رامي (شاعر الشباب.. مش عارف ازاي) أحب من عشقها القرضاوي، وهو في مطلع شبابه، ويروي في ذلك حادثة ظريفة:
قال رامي: كنت في صدر الشباب أغادر داري بعد الغروب، وأعود إليها قبل الشروق. وكنت ألاحظ كلما هممت بالانعطاف من الحارة التي أسكن أحد منازلها أن رأساً صغيراً يطل وهو يلتف بغلالة بيضاء ناصعة من وراء مشربية من مشربيات بيوتنا القديمة.
وظننت - والشباب كثير الظنون والخيلاء – أنها تنتظرني لتراني، والليل ستار يلف العشاق بحجب، ويحميهم من أنظار دخيلة. وقد أكبرت في هذه العاشقة دأبها على انتظاري في نفس موعد خروجي، وعند عودتي؛ لتطمئن عليّ في رجوعي! ولم تكن نفسي ولا التقاليد تسمحان لي حتى برفع النظر إلى أبعد مما يحميني من مزالق الطريق، ولا ينبغي لي - وهي من أهل حيي - أن أرجوها حتى في منامي! وكأني كنت أقول مع من قال:
وإني لأستحييك حتى كأنما عليّ بظهر الغيب منك رقيبُ!
ورحت أنظم فيها شعراً يحوي ويضم المعاني التي تثيرها مشقة النوى وحنين الوجد وإكبار الوفاء، وأنطوي على وجدي وسهدي.. وذات يوم خرجت من داري قبل الغروب، وإذ بعيني تفلت مني، وترمق حبيبة خيالي، ومهوى حنيني العفّ، وحناني المشفق، لأكتشف أنها ((قُلة – جرّة)) تلتف في شاش أبيض رقيق مبتل، ليتبرد الماء بهذه الوسيلة.. وفقدت ليلاي، وأفقت من حلم جميل!
وسوم: العدد 688