مرور عام على انتفاضة القدس: أمل اسرائيلي بعدم تجددها

مركز القدس

  يصادف اليوم ذكرى مرور عام على انتفاضة القدس، انتفاضة لم يكن اندلاعها ضمن حسابات القيادات الإسرائيلية، على المستوى الأمني أو السياسي، ورغم "بدائية" الوسائل المستخدمة بالمقارنة مع انتفاضة الأقصى، إلا أن هذه الانتفاضة كان لها آثار وتداعيات واضحة على الجمهور الإسرائيلي، وكذلك على قيادته بشتى أطيافها، وأعطت العديد من مؤشرات الفشل الذي تحيياه تلك الدولة، والتي لا تفتأ التفاخر بقدراتها سواء العسكرية، أو الاستخباراتية على وجه الخصوص، ولعلّ من أبرز تلك المؤشرات:

أولاً: مخابرات غير مطلقة القدرة، لطالما تفاخرت "إسرائيل" بامتلاكها قدرة استخباراتية عالية، كانت تدفع صانع القرار دوماً إلى التفاخر بها، تحت عنوان كل شيء تحت السيطرة ولا داعي للقلق، لتأتي هذه الانتفاضة لتكشف زيف أصحاب الادعاء، وعورة طائفته الاستخبارية، وقد أشارت مجمل القيادات الأمنية، بأن نقص المعلومة الأمنية سبب مهم في اندلاع الأحداث، وهذا ما أشار اليه يوبال ديسكن رئيس الشاباك الأسبق، حينما أقر بعدم قدرة مواجهة هذه العمليات استخبارياً.

ثانياً: فقدان قوة الردع، حيث لم تعد صورة دولة الاحتلال كصاحبة ردع شبه مطلق كما كانت عليه في عقود مضت، وفقد الجندي الإسرائيلي مكانته كمقاتل لا يقهر في ساحة المواجهة، ولعلّ صورة الشاب الخليلي يحمل سكينا مطارداً جندياً مدججا بالسلاح خير دليل على ذلك، وكذلك اتخاذ وزير الأمن الداخلي قراراً يتيح للإسرائيليين حمل السلاح للدفاع عن أنفسهم بتأييد من يوبال ديسكن رئيس الشاباك الأسبق، لهو دليل على عجز جيشه، الذي ضاعف وجوده في بعض المناطق، زاجاً العديد من الوحدات القتالية إلى ساحة المواجهة، رغم الفارق المهول في الامكانيات.

ثالثاً: ليس من السهل تمرير كل المشاريع، كان الاعتقاد الجازم لدى حكومة الاحتلال اليمينية بأنها ستستطيع من خلال تلك التركيبة، أمر بخرته انتفاضة القدس، والتي على أثرها قام نتنياهو بمنع زيارات السياسيين والقيادات الوازنة بدخول المسجد الأقصى، علاوة على اعطاءه مؤشراً قوّياً بأن صبر الشعب الفلسطيني بدأ ينفذ في ظل تتالي عمليات الغضب الفلسطينية، والتي أصبحت موجاتها أشبه بانتفاضة مستمرة بحيث لم يهنأ الاحتلال بفترة هدوء طويلة منذ العام 2000.

رابعاً: رهان خاسر على ضياع الجيل الفلسطيني، راهنت "إسرائيل" بأنها أمام جيل فلسطيني قادم لا يهتم كثيراً بهويته، يواكب الحداثة والتطور، يلبس لباساً غربياً وقصات شعر عصرية، ليس له علاقة لا بدين ولا بوطنية، لتثبت انتفاضة القدس أن هذا الجيل الأكثر اقداماً وشجاعة، بل سبق غيره بأنه لم يحتج قادة ميدانيين أو فصائليين لتوجيهه، بل قاد وتحمل المسؤولية بنفسه.

ورغم أن الوسائل المستخدمة في الانتفاضة لم تصل إلى حد ما تخشاه "إسرائيل" من انتقال العمليات من دائرة السكين واطلاق النار إلى تفجير الحافلات والمقاهي، فإن لهذه الانتفاضة تأثيرات على كافة القطاعات في دولة الاحتلال، من حيث:

أولاً: مساحة كبيرة من الهلع والخوف، أدت في بعض الأحيان إلى اطلاق النار بالخطأ من قبل الجنود على بعضهم، أو على يهود آخرين ظناً بأنهم عرب، كما حدث في عملية بئر السبع الشهيرة، وقد أوضح مراقبين أمنيين بأن انتفاضة القدس لم تصل إلى ما وصلت اليه انتفاضة الاقصى من وسائل وامكانات، إلا أنها توازت معها في مساحة ما نشرته من الهلع والخوف، والذي ساهم وفق المعطيات الإسرائيلية إلى تراجع السياحة الداخلية بشكل كبير في مناطق القدس، وتل ابيب خاصة بعد عملية سرونا.

ثانياً: انعكاسات اقتصادية، حيث ساهمت الانتفاضة في ذروتها إلى نزول البورصة الإسرائيلية، وقد حذر الدكتور ابي بن بست في منتصف تشرين أول، على أن هذه الانتفاضة سيكون لها انعكاسات اقتصادية، وقد اشارت احصاءات اسرائيلية إلى تأجيل عدد من الشركات الاستثمارية الكبرى استثماراتها في "إسرائيل" لحين عودة الهدوء والتأكد من استباب الأمن.

ثالثاً: ساهم بشاعة ما قامت به قوات الاحتلال من قتل متعمد للفلسطينيين، خصوصاً الاطفال منهم، إلى زيادة سوءة وجه الاحتلال عالمياً، وسرعت من عملية اتخاذ الاتحاد الاوروبي لقرار وسم منتجات المستوطنات، مما ساهم في تراجع صادراتها إلى نحو 100 مليون دولار شهرياً، علاوة على توتر علاقة دولة الاحتلال مع عديد الدول الاوروبية، وإن كان لفترات وجيزة، كما كان الحال بعد تبادل الاتهامات بين "إسرائيل" والسويد.

رابعاً: زيادة عمق الفجوة الداخلية، حيث ساهمت الانتفاضة في زيادة الفجوة بين المشروعين، مشروع اليمين والوسط في دولة الاحتلال، والأبعد من ذلك أظهرت الانتفاضة تحميل اطياف واسعة في دولة الاحتلال حكومتهم المسؤولية، حيث اعبر زعيم المعسكر الصهيوني هرتسوغ أن مواجهة الانتفاضة تكون بطرق أخرى وليس باستمرار الاستيطان، في حين اظهرت استطلاعات أخرى حنق الجمهور الاسرائيلي على قطاع المستوطنين، بتحميلهم مسؤولية الأحداث، على خلفية أعمالهم الاستفزازية، ولعلّ عدم توجه الأحزاب لحكومة وحدة كما جرت العادة وقت الأزمات مؤشر على ذلك.

انتفاضة القدس أو "انتفاضة الأفراد" كما يحلو لـ"إسرائيل" تسميتها، لما لذلك من تبعيات اقتصادية وسياسية في حال تسميتها بالانتفاضة، استمرت على خلاف التوقعات الإسرائيلية، استمرارٌ متقطع أو على موجات متفرقة إلا أنه يفتح الذهنية الإسرائيلية أمام سيناريوهات لا تتمناها، فمجرد وجود الانتفاضة ولو بشكل متقطع، من شأنه أن يعطي مؤشراً قويا بأنه لا أمل في وجود هدوء مستمر، ولهذا سيكون انعكاسات على مسارات مختلفة في الدولة، منها الاقتصادي والسياسي، وكذلك على طبيعة العلاقات في الدولة العبرية داخلياً.

انطلاقاً من هنا فإن استمرار انتفاضة القدس من عدمه له تداعيات على مجمل القضية الفلسطينية، حيث إن توقف الانتفاضة كلياً ولفترة طويلة نسبياً، سيفتح شهية الاحتلال على ابتلاع المزيد من الأراضي والسير في الخطط اليمينية التي يقودها البيت اليهودي، بفرض السيادة الإسرائيلية رسميا على المستوطنات في الضفة الغربية بما في ذلك العشوائية، وتطبيق القانون الإسرائيلي عليها، علاوة على ذلك تجنيس سكان غور الاردن من الفلسطينيين والبالغ عددهم وفق الرواية الاسرائيلية قرابة الـ 100 ألف نسمة، من أجل تشريع ضم غور الأردن إلى "إسرائيل" بشكل رسمي.

من الجانب الآخر فإن استمرار الانتفاضة ولو بشكل متقطع سيكون له انعكاس ايجابي على القضية الفلسطينية، نعم من الناحية التكتيكية وعلى المستوى القريب قد تنتهج "إسرائيل" المزيد من الغطرسة وابتلاع الأراضي، لكن استراتيجيا فإن ذلك سيدفع "إسرائيل" إلى اتخاذ خطوات جادة للانفصال عن الفلسطينيين، وإعادة حل الأحادي الجانب إلى طاولة النقاش، وليس هذا ببعيد في ظل أن الفكرة راودت أقصى اليمين الإسرائيلي خلال ذروة أحداث القدس، وقد أشار لذلك زعيم حزب البيت اليهودي المتطرف نفتالي بنت، الذي قال علينا تغيير طبيعة تفكيرنا لمواجهة التحديات الأمنية.

 وتجدر الإشارة هنا أن اليمين الإسرائيلي هو الأقدر على الانسحاب من المناطق المحتلة، وما انسحاب بيجن من سيناء وشارون من غزة، إلا دليل واضح على أمرين، الأول قدرة اليمين على اتخاذ القرارات المصيرية، وبهذا هو ينفذ برنامج الوسط واليسار الذي سيدعمه بقوة، والأمر الآخر أن اليمين بطبيعته لا يستجيب إلا والمعول في رأسه.

وسوم: العدد 688