القرضاوي زارع واللا مزروع؟!
ويبقى شيخنا القرضاوي شخصاً سمحاً، ليناً، غير متكلف، ولا منشِّي، ولا (مِلَزّق) مثل بعض المستكبرين الذين يتصنعون الأهمية، ويستجدون العظمة، ويضفون على أنفسهم هالة من النفخة الكدابة، فإذا اضطررت أن تقابل أحدهم قابلك بعد مواعيد، وبروتوكولات، وبدلة رسمية، وقعدة رِجل على رجل، وكلام من طراطيف المناخير، يظن سيادته بذلك أنه يزداد أهمية، ولا يدري الأهبل أنه يدعو للرثاء، وأن شكله مضحك، وأنه بذلك التكلف والانتفاش الكاذب يشين نفسها ولا يزينها!
وكم من كبير في علمه ومنصبه وماله وحاله أسعدني الله بمقابلته في بيته أو مكتبه؛ فلم أجد غير البساطة والتلقائية والتواضع والابتسامة، بل والنكتة والطرفة التي تمسح عن الوجه الحرج، وتزيل الحواجز، كرماً ولطفاً وإيناساً: رأيت ذلك في عمر الأميري وصلاح أبو إسماعيل والشعراوي وابن باز والشنقيطي وعبد العظيم الديب والعبّاد وحسن عيسى وحسان حتحوت وكثيرين غيرهم ممن يساوي أحدهم في سوق المكارم شيئاً ثقيلاً.
وأعود إلى مولانا القرضاوي:
رأيته بالمدينة المنورة وصافحته أول مرة حين كنت طالباً بالجامعة قبل أكثر من ثلاثين سنة، ثم اقتربت من كتاباته بعدها ببضع سنين، وتعاملت معها مباشرة – وبتدقيق وعناية - حين كنت أعمل محرراً لغوياً في مجلة الأمة (أعاد الله أيامها كما عادت مجلة الدوحة).
وقبل قريب من عشرين سنة تواضع فضيلته، وهاتفني - لأول مرة - لأمر لا أذكره.. فلم أميز صوته الذي بدا رفيقاً ودوداً، فقلت مُرحباً: أهلاً يا دكتور مزروعة (أقصد الدكتور محمود مزروعة الذي كان أستاذاً في كلية الشريعة آنذاك) فأبى الشيخ إلا أن يداعبني وقال مازحاً؟ مين اللي قال إنني مزروعة؟
قلت: إذا مش مزروعة، تبقى حضرتك مين؟
قال: أنا زارع مش مزروع!
– زارع مش مزروعة.. مش مزروعة؛ يعني تبقى مين؟ من حضرتك؟!
- قول انت
- مش عارف والله؛ غلب غُلابي يا أستاذي زي ما بنقول في زفتى.. مين حضرتك؟
قال: وابتسامته التي أراها من سماعة الهاتف تفضح عجزي عن التعرف عليه: أنا يوسف القرضاوي.. فوثبت مباشرة، كأني أومباشا أو عسكري في الجيش فاجأه القائد الأعلى للقوات المسلحة، وضربت تعظيم سلام للتليفون، وأنا أهتف:
مين حضرتك؟ آآآآآس.. آسف جداً يا أستاذي.. آآآآآآآآسف والله.. أنا آسسس.. وكان موقفي حرجاً، وانسال عرقي تحت الفانلة من الحياء، والإحساس بالورطة المنيِّلة بستين نيلة!
وكنت معه ذات مرة في مجلسه الكريم في بيته بالدفنة، ودار شيء اقتضى أن أستشهد بقصيدة لعبقري العامية اللاذعة أحمد فؤاد نجم:
(الحمد لله خبّطْنا تحت بَطاطنا.. يا ما أحلى رجعِةْ ظُبّاطْنا من خط النار/ يا أهل مصر المحمية بالحرامية.. الفول كتيرْ والطعمية والبَرّ عَمَار/ والحالة معدنْ واهِي ماشيةْ زيّ الأشيا.. ما دام جنابُه والحاشية بكروشْ وِكْتار...)
فقال الشيخ: الله.. جميلة جداً، من اللي قال الكلام الحلو دا؟!
فرفعت حاجبي دهشة، وقلت: أحمد فؤاد نجم.. ادعي له بالهداية يا شيخ..
فدعا له الشيخ بخير، لكن شيطاني استفزني، فقلت فيما يشبه العتاب:
الله يسامحك يا شيخنا؟ إذن لماذا لمتني حين استخدمتُ قليلاً من الألفاظ العامية في كتابي: ماذا يريدون من المرأة؟
فقال: لأنك رجل لغوي، وأسلوبك رفيع راق، فرأيت ألا تهدره في العامية!
فسألته: إذن ممكن حضرتك تسمع الشعر العامي، وتأنس له؟ فقال: بالعكس، أنا أحبه، وأحفظ منه الكثير، وكنا نقوله أيام اعتقالنا!
وأخذ يسرد علي أشعاراً مما كان يقوله المساجين أيام اعتقاله في مطالع شبابه، ويسمعني مقطوعات زجلية من هنا وهناك، ومنها (ليه وليه) التي قيلت آنذاك احتجاجاً على الظلم، والاستبداد، والقهر السياسي، ومنها:
(ليه وليه؟ عملنا إيه؟/ يا حكومة يا ظالمة جرى لك إيه؟
أنا كنت قاعد جُوّا البيت/ دخل علي كم عفريت/ وفتشوني وقالوا: جنِّيت!/ يا متهم، قلت لهم: إيه؟!
قالوا لي: إنت من الإخوان/ وضبطْنا فِي بيتك قرآن/ ومأثورات.. وسبحة كمان/ ومْربي ذقنك.. جاوب: ليه؟
بتصلي من غير إذن بوليس/ وتصوم الاثنين من غير ترخيص/ وعلى صلاة الفجر حريص/ والمصطفى بتصلي عليه/ ليه وليه؟
وتصف الأبيات حالهم في الليمان:
في الصبح نفطر عدس وفول/ أما الفاصوليا دي على طول/ يا اخوانّا محنة وبكرة تزول/ وكل ظالم ورده عليه/ ليه وليه؟
وأشار - كما ورد بمذكراته - إلى أنهم في أيام السجن كانوا على ثلاثة أنحاء:
فمنهم شعراء كانوا ينشؤون القصائد التي تضج بالشكوى، مثل قصيدته (النونية).
ومنهم زجالون كانوا يؤلفون الأزجال، مثل زجل أحدهم في وصف سوء المعاملة في الحربي:
اللي ما شافش السجن الحربي/ مهما اتربّى ما تربّاش!
والفريق الثالث هم الذين كانوا يقلبون الأغنيات المشهورة بكلمات جديدة، لتصبح ملائمة لوصف الحال، ويتغنون بها، مثل ذلك الذي كان يقلد أغنية أم كلثوم الشهيرة: يا ظالمني. وكان يغير عباراتها، وينشدها بصوته العذب، فيقول:
وتضربني وتِئذيني/ وتنفخني وتكويني/ وتزعل لما أقول لك/ يوم: يا ظالمني
وقد ترجم الدكتور القرضاوي محنته وإخوانه في السجن - التي أشار إليها الزجل السابق - في قصيدته الشهيرة (النونية) التي كتبها قبل نصف قرن، واستخدم فيها لغة وسيطة بسيطة وواضحة، لم تخل من الطرافة، والسخرية من السجن والسجانين والتعذيب – على قسوته ونذالة فاعليه - ومنها:
وفطورُنا عدسٌ تزيّن بالحَصَى إن الحَصَى فرضٌ على (التعيين)
قد عِفْتُه.. حتى اسمَه وحروفه من عينِه، أو دالِه، والسينِ
وغداؤنا (فاصوليةٌ) ضاقت بها نفسي، فراية صَحْنها تؤذيني
وعشاؤنا شيءٌ يُحيِّرك اسمه وكأنما صنعوه من غِ سْلين
لا طعمَ فيه.. ولا غذاء.. وإنما يحلو لنا من قلة التموين
طبقٌ يُكال لسبعة أو نصفُه وعليَّ أن أرضى.. وقد ظلموني
طبعاً قررت بعد هذه اللقاء مع مولانا أن أتوسع في استخدام العامية حين أخاطب العامة، لأني رأيتها ألصق لقلوبهم من اللغة النخبوية المترفعة؛ وسامحني يا شيخي!
وسوم: العدد 689