السيادة العراقية وخطط تركيا البديلة
منذ بدء عملية "تحرير" الموصل، بل من قبلها بأيام، تكاد أخبار التوتر العراقي -التركي على خلفية المعركة وترتيباتها تطغى على أخبار التطورات الميدانية على محاور القتال. فمنذ أن تأجلت خطة "تحرير الرقة" إثر الخلاف الأمريكي -الروسي لصالح شقيقتها الموصل، رفع رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي سقف تصريحاته التصعيدية وتحديه للوجود التركي على الأراضي العراقية (معسكر بعشيقة) رافضاً رفضاً تاماً -حتى الآن -المشاركة التركية في العملية.
هدد العبادي تارة بمجلس الأمن والقانون الدولي وطوراً بحرب إقليمية لم يوضح بالضبط من سيخوضها ضد من، معتبراً المدربين الأتراك في المعسكر (لتدريب العراقيين لمواجهة داعش بناء على طلب عراقي) قوات احتلال، وهو في ذلك كله يحيل إلى "السيادة العراقية" التي تنتهكها رغبة -مجرد رغبة -تركيا المشاركة في المعركة.
لم يعد ثمة حاجة كبيرة للإشارة إلى أن أسباب هذا التصعيد العراقي سياسية بحتة تتعلق بمساحات النفوذ والتوازنات في الموصل والعراق -ديمغرافياً وسياسياً -ما بعد طرد تنظيم الدولة -داعش ومحاولة تحديد الدور التركي فيهما بسبب دعمه الضمني للمكون "السني" المهمش سياسياً في العراق. بيد أن حديث العبادي عن "السيادة" سردية طريفة تحتاج خيالاً خصباً قادراً على سبر أغوارها وفهم أبعادها، في مشهد سريالي وثيق الصلة بحديث الأسد عن السيادة السورية -أيضاً في وجه تركيا -بينما تتواجد عشرات الدول على أرضه فضلاً عن الطائرات الصهيونية التي تقصف ما يحلو لها من مواقعه ومواقع حلفائه متمتعة بحصانة "حق الرد في الزمان والمكان المناسبين".
يتحدث رئيس الحكومة المركزية في بغداد عن السيادة في دولة تتكاثر فيها الميليشيات من كل المرجعيات والخلفيات والأفكار بالتوازي مع الجيش الرسمي بل ربما تخطاه بعضها قوة ودعماً وتسليحاً وحضوراً في بعض المناطق، وفي ظل حكومة تركت الباب واسعاً لداعش لتسيطر على الموصل وأموال الحكومة وأسلحة الجيش فيها ليستقر بها لأكثر من سنتين، وعلى أراضي بلد "يستضيف" قوات عسكرية لعدد كبير من الدول، وتحت قيادة سياسية مرهونة للجار الإيراني من أعلى رأسها إلى أخمص قدميها.
هذا التشدق بالسيادة -الذي كنا سنقف في مقدمة المنافحين عنها لو كانت مبدئية ووطنية ومحقة -يحاول إعاقة مشاركة أنقرة في معركة الموصل رغم أنها عضو في التحالف الدولي وتدرب العراقيين من البشمركة و"السنة" لمواجهة داعش، ورغم أنها دولة جارة وحدودية متأثرة بكل تفاصيل المعركة وتداعياتها، الأمر الذي دفع اردوغان وباقي المسؤولين الأتراك للحديث عن خطط بديلة لتركيا التي لا تملك رفاهية البقاء في صفوف المتفرجين في معركة لها تأثيراتها المباشرة على مختلف ملفات المنطقة بل على مجمل مستقبلها.
فرغم أن موقف أنقرة ضعيف من الناحية النظرية -القانونية في ظل رفض حكومة العراق المركزية (الممثل الرسمي للعراقيين والقيادة المفترضة للمعركة) مشاركتها ووجود قواتها وفق قواعد السياسة الخارجية والعلاقات الدولية، إلا أنها تملك فعلاً بعض الخيارات البديلة التي تمكنها من المناورة واللعب في المساحات الرمادية بما قد يمنحها لاحقاً إمكانية المشاركة المباشرة أو غير المباشرة في العملية، أهمها:
أولاً : عضوية التحالف الدولي الذي أسس لمكافحة داعش في كل من سوريا والعراق والذي يشارك في العمليات العسكرية بالدعم الجوي واللوجستي وبعض العمليات الميدانية، وهو تفصيل يمكن أن يتجاوز الموافقة العراقية المباشرة على المساهمة التركية، ويبدو ان ذلك قد حدث فعلاً وفقاً لتصريحات رئيس الوزراء التركي حول مشاركة مقاتلات بلاده في الطلعات الجوية. أكثر من ذلك، تملك تركيا ورقة قاعدة إنجيرليك العسكرية ذات الأهمية الاستراتيجية في مواجهة التنظيم إضافة إلى دورها الحيوي في سوريا سيما بعد عملية درع الفرات، الأمر الذي يزيد من حرص التحالف وقيادته الأمريكية على رضى أنقرة ولو جزئياً.
ثانياً : دعوة طرف آخر غير الحكومة المركزية لتركيا لتشارك في المعركة، مثل الحشد الوطني (أو باسمه الجديد قوى حرس نينوى) الذي دربته بنفسها أو البارزاني رئيس إقليم شمال العراق. بيد أن هذا الخيار أيضاً يصطدم بنفس التحديات النظرية -القانونية سابقة الذكر فضلاً عن صعوباته العملية، والتي كان من تجلياتها الخلفية السياسية الواضحة للقرار القضائي الأخير ضد أثيل النجيفي -قائد الحشد الوطني ومحافظ نينوى السابق -بسبب "استعانته بقوى أجنبية".
ثالثاً : مشاركة القوى المحلية المحسوبة على أنقرة في المعركة، والتي يمكن اعتبارها مشاركة تركية غير مباشرة نظراً للأبعاد السياسية لهذه المشاركة وانعكاساتها على مشهد الموصل الديمغرافي والسياسي بعد المعركة، وهو الأمر الذي تحقق جزئياً حتى الآن بمشاركة قوى حرس نينوى المكونة من تحالف جزء من الحشد الوطني مع عشائر سنية في نينوى.
رابعاً : مسار العملية مستقبلاً واحتمال تدحرجها نحو تطورات قد تقدم لتركيا مسوغات التدخل من باب الدفاع عن النفس أو حماية مصالحها أو لدوافع أخرى، مثل مشاركة حزب العمال الكردستاني مباشرة في العملية، أو التعرض لتركمان تلعفر المحسوبين على تركيا، أو توجه عناصر من داعش نحو الداخل التركي أو الحدود، أو انتقال عدد كبير منهم إلى الداخل السوري بما قد يعقد الحسابات التركية وعملية درع الفرات، أو مشاركة الحشد الشعبي أو القوى "الشيعية" الأخرى في معارك قلب الموصل وتصاعد حدة الاستقطاب والمواجهة على أسس طائفية ومذهبية، أو حتى أي تدابير تتعلق بالوضع الديمغرافي للمدينة خلال المعركة أو بعد انتهائها باعتبار أن تركيا تملك حق إبداء الرأي و/أو التدخل فيها وفق اتفاقية أنقرة 1925.
خامساً : ملف اللاجئين الذي قد يضع تركيا في قلب آلية صنع القرار مرة أخرى في ظل تحذيرات محلية ودولية من خطورة عدم تحييد المدنيين في المعركة، بما قد يؤدي إلى نزوح حوالي مليون عراقي من المتوقع أن يصل منهم ما يقارب المئة ألف إلى الحدود التركية، وهو ما يجعل أنقرة ذات يد عليا ويقوي أوراق تفاوضها مع التحالف الدولي -ومن خلفه الأوروبيين -وحكومة بغداد على حد سواء.
سادساً : صفقة سياسية بين أنقرة وبغداد ما زالت ممكنة رغم كل التعنت العراقي، بسبب حرص الولايات المتحدة على أكبر عدد ممكن من المقاتلين المحليين والدول المشاركة وعلى التنسيق الكامل بين مختلف الأطراف لضمان سلامة العمليات ونتائجها المتوخاة. ولعل في زيارة الوفد التركي لبغداد والزيارة المرتقبة لوفد عراقي إلى أنقرة إشارات واضحة على هذه الاحتمالية/الإمكانية، سيما وأن مشاركة تركيا في المعركة عنوان فضفاض يحتمل عدة تفسيرات وسيناريوهات وخيارات قد يرضي بعضها السقف العراقي الرسمي.
في المحصلة، ما زالت معركة "تحرير" الموصل في بداياتها الأولى، ولربما لن تدخل في المراحل الحاسمة والصعبة إلا بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية حتى لا تؤثر على حظوظ كلينتون، وبالتالي فما زال بالإمكان توقع الكثير من المتغيرات على عدة صعد في مقدمتها العلاقات التركية -العراقية ومشاركة أنقرة في العمليات. أما نتائج العملية المتوقعة على صعيد النجاح الميداني أو في سياق مواجهة التنظيم بشكل عام فلا تتسع لها المساحة هنا وقد تكون موضوع مقال قادم بإذن الله.
وسوم: العدد 691