تاريخ الأشباه والنظائر من الأسماء
رُؤى ثقافيّة 234
ماذا إذا لم يجد مؤلِّف «جغرافية التوراة: مِصْر وبنو إسرائيل في عسير» علاقة لفظيَّة ولا معنويَّة بين اسم مكانٍ «توراتيٍّ» واسم مكانٍ في «جزيرة العرب»؟ ماذا سيفعل؟ لن يدع أبدًا الادِّعاء أن الاسم التوراتي قائمٌ في جزيرة العرب، بأيِّ صورةٍ من الصور! فمكان كـ(صنصنه)، بالعِبريَّة، هو: (صلاصل). وانظر إلى تخريجه الاعترافي الدالِّ على حرصه على نِسبة الأماكن إلى جزيرة العرب، مهما كان، حيث قال:
«لم أتمكن من العثور على موقع بهذا الاسم في جزيرة العرب. لكن على الرغم من أن حرف النون العبري لا ينقلب عادة إلى اللام في اللغة العربية، إلا أن هذا ممكن بسبب تأثير اللهجات المحليَّة. في هذه الحالة يكون الموقع المقصود «صلاصل/ صلصل» في بلاد الحرث بجيزان، والمسألة قابلة للنقاش.»(1)
وها نحن هؤلاء نناقش، قائلين: إنه لو ثبت بهذا المنهاج عِلْمٌ تاريخيٌّ أو جغرافيٌّ، لما بقي مكانٌ في مكانه، ولا زمانٌ في زمانه؛ لأنه منهاجٌ غير عِلْميٍّ، لا في مقدِّماته ولا في استنتاجاته، بل هو منهاجٌ شموليٌّ في احتيالاته، مهما كانت الأسباب واهيةً بين يديه. ولذا فإن الاستمرار في نقاش مثل هذا مضيعة وقت، فسنتوقَّف عن عرض أمثلة أخرى من هذا، إلَّا على سبيل التأكيد أن عوار المنهاج ظلَّ ملازمًا لهؤلاء الباحثين.
ثمَّ سيعيدها المؤلِّفُ جذعةً في تأصيل الأسماء الحادثة، أو حتى الحديثة، لينسبها إلى مجاهل التاريخ، دأب قدوته (كمال الصليبي)، واستكمالًا لتخرُّصاته في هذا المضمار. فكلمة «مقصه» التوراتيَّة، مثلًا، تعني: «من وادي قصي»، و(وادي قصي)- كما قال، أو ربما «وفق قناعاته الشخصيَّة»- يقع «بمنطقة صبيا بجيزان»!(2) ليرادف التخليط التاريخي بالتخليط الجغرافي؛ لأنه لا يعرف عن المكان سوى حروف اسمه. هذا على الرغم من أنك لن تجد اسم (وادي قصي) في كتب البلدان العربيَّة القديمة، ولم يُشِر (الهمداني) في كتابه «صفة جزيرة العرب» إلى وادٍ بهذا الاسم، حيث وصف أودية تلك الجهات وسمَّاها. أمَّا مؤلِّفنا، فقد عثر على أن ذلك الوادي كان يُسمَّى بهذا الاسم منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام، وقد ورد ذكره في «العهد القديم»: «قصه»! أ ليس يكفي القاف والصاد برهانًا، بل برهانَين؟! ويفعل ذلك مع سائر الأسماء المستحدثة في المنطقة؛ حتى (قرية العلوي) في (سامطة) اتضح لديه «وحسب قناعاته الشخصيَّة!» أنها اسمٌ تاريخيٌّ توراتي! (3) وكذا (أُمُّ العظام)، في (سامطة)، هي: (عصمون)، و(آل صفوان)، في (خميس اِمْشيط)، أصبحوا مكانًا توراتيًّا اسمه: (مصفون)، وهلمّ جرًّا! (4) فهل سأل نفسه، وهو يجدِّف بهذه الصورة الهزليَّة، عن تاريخ قرية العلوي أو تاريخ أُمِّ العظام أو تاريخ آل صفوان؟ لا؛ لأن التاريخ لا يعنيه في شيء، كما لم يكن يعني أستاذه، رئيس قسم التاريخ، وإنما يعنيه شطرنج الحروف والكلمات لإلصاق تاريخ (بني إسرائيل) بـ(عسير) و(جازان).
ويطول بنا المقام لو تتبعنا تخمينات المؤلِّف التي لا تقوم على دليل سوى تشابه الكلمات، غير ملتفتٍ- أو غير متنبِّهٍ- إلى تكرُّر الاسم نفسه في مَواطن شتَّى، ولا ملتفت إلى أيَّة معلومةٍ تاريخيَّةٍ تقدِّم تسويغًا لفرضيَّاته. من أمثلة ذلك قوله- لا فُضَّت قناعاته الشخصيَّة!-: «تبقى مسألة تعريف المواقع الأخرى، وأولها بيت حجلة، التي هي قرية (حجلا) في منطقة أبها قرب خميس اِمْشيط. أمَّا بيت معربة فهي (الغرابة) في تنومة المجاورة.» ثمَّ ضاع هنا، حيث لم يجد مكانَين متَّصِلَين بالمكانَين السابقَين، هما (ءبن بهن) و(بن رءوبن). فزعمَ أن الأوَّل إشارة إلى قرية (بهوان) في سراة عسير. لكن أين (بن رءوبن)؟ قال: «يبدو أن المقصود قبيلة (الروابين) التي تقطن حاليًّا شمالي الحجاز، ومن غير المستبعد أبدًا أنها قطنت الإقليم قديمًا!»(5) ونقول في المقابل: من غير المستبعد أن كتابك كلَّه لا أساس له من الصِّحَّة! وما ظنُّك بكتابٍ ينهض على قاعدة: «من غير المستبعد»، بعد قاعدة «حسب قناعاتي الشخصيَّة»؟! ولولا أن صاحبنا، كأستاذه، أو أتعس منه، لا يعرف عن الجزيرة وأسماء المواضع فيها غير ما تلقَّفه عبر المعاجم الحديثة، لوجد أماكن كثيرة «من غير المستبعد» أنها المقصودة، على طريقته في عدم الاستبعاد. لدينا في جبال (فَيْفاء)- على سبيل الشاهد- من تلك الأسماء ما لا يُحصى. فهناك (بيت حُجَيْل)، الذي أشار إليه جدّي الشاعر (علي بن سالم آل حالية) في قصيدة رثاء- ذكر فيها جدّي (خال والدي: فرحان بن أحمد)، راعي حُجَيْل، وحُجَيْل: اسم بيته- ومطلعها:
يا خاطري ما لَكْ مَعَدْ تَبنيِ القافْ ** ولا تـسَلِّــيني بكَلْمَــةْ يَـسـيرةْ
وقـالَ صِـدْقِ كِـنْتِ قِـدْنِـيْ مُـوَلَّافْ ** واليـومْ مَجـروحٍ بـامُـورٍ كـثـيرةْ
إلى أن يقول:
أَرَى (حجَيْلٍ) وانِّ قَلبي تحسَّافْ ** على وَلَدْ حِـمدانْ نُـوْرُو شَهِـيرةْ
بل هناك في فَيْفاء بيتان باسم حُجَيْل: (حُجَيْل)، و(حُجَيْل الأعلى)، كلاهما من بيوت قبيلة (آل خُسَاف). أمَّا (الغرابة)، فثمَّة بيت اسمه (الغُرَّابة)، في (بُقعة الضَّحْي)، في جبل (آل المَشْنِـيَـة). وحُجَيْل والغُرَّابة، كما ترى، بيتان بالفعل: (بيت حُجَيْل) و(بيت الغُرَّابة)، كما ورد اسماهما ووصفاهما في التوراة، لا كما تلمَّسهما (مُنَى) بين حروف الأسماء على أيَّة صورة.
وإذن، ما أكثر الأشباه والنظائر من الأسماء، لو كان ذلك يدلُّ في ذاته على شيءٍ من حقائق التاريخ!
https://twitter.com/Prof_A_Alfaify
http://www.facebook.com/p.alfaify
http://khayma.com/faify
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مُنَى، زياد، (1994)، جغرافية التوراة: مِصْر وبنو إسرائيل في عسير، (لندن: رياض الرَّيِّس)، 141.
(2) انظر: م.ن، 121.
وادي (قَصْي) من روافد وادي (صَبيا)، ومآتيه من جبال (بني الغازي/ بلغازي). ويلتقي وادي قَصْي بوادي صَبْيا في الموضع المسمَّى بـ(مجْمَع الأودية)- شرق قرية (جَرّ جبريل)، أو (الجَـرّ الأعلى)- ليتشكَّل من هناك ما يُعرف بوادي صَبْيا.
(3) انظر: م.ن، 122.
(4) انظر: م.ن، 124- 127.
(5) انظر: م.ن، 127.
.................................................................
* [الكاتب: أ.د/ عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان المادة: «تاريخ الأشباه والنظائر من الأسماء»، صحيفة "الرأي" الكويتية، الثلاثاء 22 نوفمبر 2016، ص29].
وسوم: العدد 696