الأسر المغربية هي أول من ذبح مجانية التعليم قبل أن تفكر الدولة في ذلك

تساعد وسائل التواصل الاجتماعي التي اكتسحت كل بيت على ارتفاع الضجيج كلما انتشر خبر من شأنه أن يمس جيوب المغاربة . وآخر ضجة تناقلتها وسائل التواصل الاجتماعي كانت بسبب شيوع نبأ عزم الدولة على إنهاء مجانية التعليم . ولقد كثر النقد الموجه للجهة التي أقدمت على هذا القرار، واستغلت القضية ليحقق بها أصحاب المصالح مصالحهم كالعادة حيث لا يقع حدث حتى يجد فيه المغرضون ضالتهم . و لقد نشرت العديد من المقالات وأشبعت نقدا من كان وراء فكرة إلغاء مجانية التعليم دون أن يشير أحد إلى مسؤولية الأسر المغربية عن ذبح المجانية ، وتمهيد الطريق للجهة التي عزمت على تنفيذ ذلك . فمن المعلوم أن المغرب ليس فيه مجانية بالمعنى الحقيقي للمجانية حيث تصرف الأسر المغربية على تعليم أبناءها مبالغ مالية مهمة بسبب ما يسمى دروس الدعم والتقوية التي تعطى إما في مؤسسات التعليم الخصوصي أو أماكن خاصة أو في المنازل . وتتنافس الأسر المغربية على إعطاء دروس الدعم والتقوية بالمقابل لأبنائها لأن المؤسسات العمومية لم تعد تؤدي وظيفتها على الوجه المطلوب في نظر هذه الأسر ، ولأن مستويات المتعلمين الدراسية سائرة في التراجع سنة بعد أخرى ، ولأن ولوج المعاهد والمدارس العليا  والكليات التي من شأن التخرج منها أن يوفر فرص شغل للأبناء رفعت عتبة المعدلات حسب عدد المقاعد المتوفرة  بها .وتكلف دروس الدعم والتقوية في مواد دراسية معلومة  خصوصا العلمية كالرياضيات والعلوم الفيزيائية وعلوم الحياة والأرض واللغات الأجنبية الأسر المغربية مبالغ مالية معتبرة . ولقد أصبح التلميذ المغربي يدرس ليل نهار وخلال عطلة نهاية الأسبوع وخلال العطل المدرسية لأن الأماكن التي تعطي دروس الدعم والتقوية مفتوحة الأبواب  في كل وقت وحين . ومن الأسر الحريصة على ولوج أبنائها المعاهد والمدارس العليا  الهندسية وكليات الطب والصيدلة من تبالغ في إعطائهم دروس الدعم والتقوية في أكثر من موضع . وكلما تحدث الأبناء عن موضع يعطي  تلك الدروس بشكل جيد إلا وأقبلت أسرهم على طرق بابه .ومن الأسر من تستضيف الذين يقدمون دروس الدعم لأبنائهم ، ومنها من تفضل وجود أبنائها داخل ما يسمى المجموعة المغلقة ، وهي مجموعة محدودة من المتعلمين وذلك حرصا على جودة وفعالية التعلم . وبعض الأسر تتظاهر بالشكوى من تكاليف دروس الدعم والتقوية ، والحقيقة أن  بعضها يزايد على البعض في سياق التفاخر فيما بينها . وبعض الأسر قطعت صلة أبنائها  نهائيا مع التعليم المجاني ، وألحقتهم بالتعليم المؤدى عنه والذي يسمى التعليم الخصوصي ، وهو تعليم لا خصوصية له في الواقع لأنه لا يخرج عن منهاج التعليم المجاني أو العمومي ولا عن أساليب التقويم فيه ، ويضطر تلاميذ التعليم الخصوصي إلى اجتياز الامتحانات الإشهادية جنبا إلى جنب مع تلاميذ التعليم العمومي، وفي نفس المواد الدراسية ، فأين هي الخصوصية فيما يسمى مؤسسات التعليم الخصوصي إلا أن تكون عدم المجانية . ومن المفارقات أن الأسر التي يغادر أبناؤها التعليم العمومي إلى التعليم الخصوصي تتهافت على المدرسين الذين يشتغلون بالتعليم العمومي ،والذين يستقطبهم أرباب التعليم الخصوصي من أجل إغراء الآباء بتسجيل أبنائهم في مؤسساتهم أو على الأقل من أجل إعطائهم دروس الدعم والتقوية الليلية أو خلال العطل المدرسية والأسبوعية . واستقطاب الأساتذة من طرف مؤسسات التعليم الخصوصي هو الذي دفع وزارة التربية إلى استصدار مذكرة منع الأساتذة العاملين بالتعليم العمومي من الاشتغال بالتعليم الخصوصي أو إعطاء دروس الدعم والتقوية فيها أو في غيرها ، وقد لجأت الوزارة إلى إجراءات زجرية ضد من يقدم على ذلك . ولقد قدمت الأسر المغربية  بإقبالها على دروس الدعم والتقوية لأبنائها تشجيعا للتعليم الخصوصي الذي زادت وتيرة انتشاره عما كانت عليه من ذي قبل ، وأصبح ميدان استثمار الذين يسمون أصحاب الشكارة ،خصوصا في ظل  غياب قوانين تحديد وتقنين رسوم التسجيل  بهذه المؤسسات ، وكذا غياب المراقبة . وتقدم الأسر المغربية أيضا بحرصها على إعطاء دروس الدعم والتقوية لأبنائها بالمقابل خدمة للمدرسين الذين يشتغلون بهذه الدروس سواء في مؤسسات التعليم الخصوصي أو في غيرها بما في ذلك منازلهم . وبإقبال الأسر المغربية  على التعليم المؤدى عنه رغبة في توفير تعليم جيد لأبنائها لولوجهم  المعاهد ذات الآفاق الواعدة تكون قد أغرت أصحاب القرار سواء في وزارة التربية الوطنية أو في غيرها بالتفكير في إلغاء مجانية التعليم ، وتكون بذلك هي من ذبح أولا  المجانية ، ولا مبرر لاحتجاجها على الجهات المسؤولة بعدما أعطتها التبرير للإجهاز على  تلك المجانية . والدفاع عن مجانية التعليم لا يكون بشكوى واحتجاج  الأسر المغربية بل يكون بانخراطها في حماية التعليم العمومي عن طريق مقاطعة الإنفاق على دروس الدعم والتقوية وتشجيع من يمار سها من أشخاص ومؤسسات ، وبتربية أبنائها على الجدية  والمواظبة على الدراسة لأن الملاحظ أن هذا الجيل من الأبناء يميل إلى الخمول  والكسل  والزهد في الدراسة  والانصراف عنها إلى اللهو واللعب والعبث خصوصا وأن الأسر توفر لهم ما فوق احتياجاتهم  خصوصا  الهواتف  واللوحات الذكية التي حولتهم إلى أبناء أغبياء تشغلهم تلك الهواتف  واللوحات عن الجد والاجتهاد في الدراسة، وقد أصبحت وسائلهم المعتمدة في الغش أثناء  اجتياز الامتحانات الإشهادية ،الشيء الذي أصبح يكلف الوزارة مجهودات  ومصاريف زائدة  لمنع الغش الذي تموله الأسر من خلال ما توفيره لأبنائها من هواتف ولوحات وهي تتنافس في ذلك وتتفاخر به إذ لا تكاد أسرة تقتني نوعا من تلك الهواتف أواللوحات حتى تتهافت أسر أخرى  على اقتنائها لكيلا تتخلف عن ركب الانفاق . ومن المفارقات أن بعض الأسر تتلكأ في اقتناء الكتب المدرسية لأبنائها  في مؤسسات التعليم العمومي ، وهو ما لا يحصل في مؤسسات التعليم الخصوصي ، وفي نفس الوقت تقدم على شراء هواتف خلوية ولوحات إلكترونية  باهظة الثمن لأبنائها . والمعول عليهم لإعادة الاعتبار لمجانية التعليم من خلال صيانة التعليم العمومي هم رجال التربية الذي يجب أن يسلكوا طريق أجيال ما بعد الاستقلال  الذين كانوا نماذج في الجدية ونكران الذات ، وهو ما لا ينكره إلا جاحد أو مكابر. ولقد أسدوا هؤلاء خدمة كبرى للوطن وللأسر من خلال تقديم تعليم جيد لأبنائها، وهو ما بوأ هؤلاء الأبناء مناصب شغل في زمن لم تكن فيه دروس خصوصية في الدعم والتقوية ، ولا مؤسسات خصوصية  بل كانت مؤسسات التعليم العمومي هي المؤسسات الرائدة  دون منافس . ولا يمكن التذرع بقلة  الإمكانيات والوسائل  في التعليم العمومي لأن جيل ما بعد الاستقلال استطاع أن يحقق أفضل النتائج بوسائل  جد متواضعة لا تصل إلى مستوى ما يتوفر منها اليوم .  وعلى رجال التربية وهم أصحاب ضمائر حية أن يقاطعوا دروس الدعم والتقوية بالمقابل ، وأن يكرسوا إعطاء تلك الدروس بمؤسسات التعليم العمومي مجانا  وتضحية وصدقة جارية في سبيل الله  إن لم تكن واجبا حين تقل ساعات العمل عن الحد المطلوب ،  ألا يبخسوا بضاعتهم لدى أصحاب الشكارة من المستثمرين  في مجال التربية ، وهو حرام الاستثمار فيه  لأن فيه مصلحة عامة . ولقد كانت كرامة رجال التربية  من جيل الاستقلال تأبى عليهم الارتزاق بالعلم والمعرفة . فإذا كان الذي يكتم علما يلجم بلجام من نار كما جاء في الأثر ، فإن من يرتزق به يكون أشد عذابا منه ، كما أن الذي يتقاضى أجرا في التعليم العمومي ولا يقوم بواجبه على الوجه المطلوب ، في حين يبذل مجهودا أكبر في مؤسسات التعليم الخصوصي ، وفي الدروس الخصوصية المؤدى عنها إنما يأكل  حرما وسحتا وهو نار في بطنه  وسيصلى سعيرا . وعلى الوزارة الوصية على قطاع التربية  أن تعدل عن فكرة إلغاء المجانية التي لا يمكن أن تلغى في قطاعين اثنين  بهما تصان كرامة المواطن وهما : الصحة والتعليم . ولا شك أن وزارة التربية الوطنية تريد أن تحذو حذو وزارة الصحة في إهمال المستشفيات العمومية ،الشيء الذي أطلق يد أصحاب الشكارة في قطاع الصحة من خلال إنشاء المصحات الخصوصية  التي تمتص دماء المغاربة بشكل رهيب خصوصا  مع تهافت هؤلاء على تلك المصحات  بعد إفلاس المستشفيات العمومية التي  يقدم الأطباء العاملون بها  التطبيب  المؤدى عنه في المصحات الخصوصية  وأكثر من ذلك  يقنطون المواطنين من التطبيب  بالمستشفيات العمومية لحملهم واضطرارهم للجوء إلى  المصحات الخصوصية ، وعلى حساب  المواطنين اغتنى  أطباء المصحات والعيادات ، وصاروا هم أيضا أصحاب شكارة يستثمر بعضهم في التعليم الخصوصي وفي مجال الفلاحة والزراعة وتربية المواشي وأنواع التجارة المختلفة ليزدادوا ثراء وهم الذين يوصفون  بأصحاب المهنة النبيلة ،فأين النبل  فيما يقدمون عليهم من مص لدماء المواطنين ؟ وما حصل في قطاع الصحة هو نفسه ما وقع في قطاع التربية  حيث أفضى إفلاس التعليم العمومي إلى لجوء الأسر للإنفاق على أبنائهم من أجل تعليم أفضل ، وبذلك ذبحوا مجانية التعليم .  وأخيرا لا بد من الإشارة إلى أن  سيادة سياسة  تمكين أصحاب الثروات من تدبير شؤون البلاد هي السبب  الرئيس في الاتجاه نحو الإجهاز على المجانية في القطاعات العمومية الحيوية كالصحة والتعليم . ويحدث هذا مع شديد الأسف  في فترة رفع شعار الديمقراطية ودولة الحق والقانون ، فهل من الديمقراطية ومن الحق والقانون أن يصير تدبير شؤون البلاد إلى أصحاب الشكارة  وحدهم  مع أن الوطن وطن الجميع  ولا توجد أسرة لم تضح من أجله؟

وسوم: العدد 697