حلب والمغول القادمون من الغرب
الحياة
مأساة حلب تتصدر الأنباء كما تصدرتها مآسٍ سابقة مرات عدة في تاريخها الطويل. فالمدينة الرائعة تعرضت لغزوات مدمرة. لكنها كانت تقوم كل مرة وتبنى مجدداً. نعرف أنها في تاريخها الموغل في القدم تعرضت لغزوات عدة، بعضها كان ساحقاً ومدمراً أكثر من غيره، لكن معلوماتنا عنها لم تتعدّ إشارة مقتضبة في سجلات المصريين القدامى أو الحثيين أو الآشوريين وبعض بقايا متفحمة لقواعد أبنية اكتشفت بالصدفة عند تشييد مبنى جديد، خصوصاً أن المدينة القديمة اليوم ما زالت قائمة على موقع المدينة نفسه الذي يعود إلى الألفيتين الثالثة والثانية قبل الميلاد، إلى أن اكتشفت بعثة ألمانية معبداً حثيّاً كاملاً لإله العواصف حدد عام ٢٠٠٣ على عمق عدة أمتار تحت مستوى أرض القلعة الحالي. ومنه عرفنا أن حلب كانت مركزاً دينياً وطقسياً مهماً خلال الفترة الحثية حتى منتصف الألفية الأولى قبل الميلاد.
نعرف أيضاً أن حلب أينعت وازدهرت خلال الفترتين الهيلينستية والرومانية عندما بنى مؤسس الدولة السلوقية مستعمرة قربها اسمها بيوريا، على اسم مدينة فيليب المقدوني في مقدونيا. وطغى الاسم الجديد على الاسم القديم لألف عام إلى أن جاء الفتح الإسلامي واستعادت المدينة اسمها السامي.
أصبحت حلب إمارة شبه مستقلة في القرن التاسع تحت حكم الحمدانيين والمرداسيين، واستعادتها بيزنطة لفترة قصيرة نهاية القرن العاشر. حاول الصليبيون فتحها مرتين، لكنها صمدت بفضل أسوارها وقلعتها الحصينة. ومنها بدأ نور الدين محمود ابن زنكي بناء دولته منتصف القرن الحادي عشر لحشد المقاومة الإسلامية ضد الصليبيين قبل أن ينقل عاصمته إلى دمشق عام ١١٥٤ لقربها من مسرح العمليات في فلسطين. لكن حلب لم تصمد أمام الغزو المغولي بقيادة هولاكو، حفيد جنكيزخان، الذي وصل إليها بداية عام ١٢٦٠ بعد استيلائه على عاصمة الخلافة بغداد عام ١٢٥٨ وقتله المستعصم، آخر خليفة عباسي فيها. حاصر هولاكو حلب حصاراً شديداً وضربها بالمنجنيقات واحتلها بعد أسبوع، ليستبيحها جيشه أسبوعاً كاملاً قتل فيه معظم سكانها المسلمين ودمر أحياءها. ولم تعد المدينة للنهوض إلا مع الأسرة القلاونية المملوكية في القرن الرابع عشر ليهاجمها تيمورلنك عام ١٤٠٠ ويستبيحها أيضاً لعدة أيام قتل فيها عساكره عدداً كبيراً من سكانها، ويقال إن تيمورلنك بنى برجاً من جماجم عشرين ألف قتيل.
هاتان الغزوتان المغوليتان الرهيبتان ما زالتا محفورتين في الذاكرة الجمعية السورية حتى اليوم، تستعادان كلما حلت بحلب، أو بسورية، مصيبة، وتقارن بهما، كما حدث في مذابح الفترة العثمانية أو بداية ثمانينات القرن المنصرم حينما عاقب جيش الأسد الأب حلب على وقوف عديد أهلها مع الإسلاميين الذين حاربوه، كما حصل لغيرها من المدن السورية قبل أن ينقض حافظ الأسد (أو أخوه رفعت بالأحرى) على مدينة حماة عام ١٩٨٢ ليعاقبها بشدة على ثورة إسلامييها قاتلاً من سكانها بين 20 الفاً و40 ألفاً ومدمراً أحياء تاريخية بأكملها، كما فعل المغول قبل قرون في حلب وحماة.
لكن الغزوة الجديدة اليوم مختلفة عما سبقها كماً ونوعاً. فهي جبارة ويبدو أنها لن تنتهي إلا وحلب القديمة وأحياؤها الشرقية مدمرة تدميراً تاماً، وفيها من الضغينة والانتقام الكثير، إذ تتجمع أطراف حاقدة على حلب وأهلها لأسباب مختلفة، الكثير منها تاريخي وبعضها متخيل. فهناك قوات النظام الأسدي الذي يريد استعادة سيطرته عليها بغض النظر عن الثمن من أرواح الأهالي لكي يكمل بسط سيطرته على ما يُسمى سورية المفيدة ويترك شرق البلاد لـ «داعش». وحلفاؤه من «حزب الله» ومرتزقة العراق والأفغان والباكستانيين ومن جر جرهم حاقدون على المدينة لميلها عن مذهبهم، ناسين أو متناسين أن ذلك حصل قبل قرون وأن أهل المدينة بنتيجة الأمر مسلمون مثلهم. وهناك الإيرانيون الذين، وإن كانوا أكثر تبصراً من أزلامهم المحليين، إلا أنهم كما يبدو يعملون بوحي تلك الضغائن الشعبوية القديمة ويهدفون، كما الأسد، لإعادة تشكيل سورية على مقاسهم المذهبي الضيق الأفق.
أما الروس فيستحقون حقيقة لقب المغول الجدد. فهم يقصفون المدينة ومحيطها القريب والبعيد كما قصف الألمان لهم مدينة ستالينغراد في الحرب العالمية الثانية. وهم يجربون كل أسلحتهم الجديدة الــفتاكة بأحجار حلب ولحوم أهلها ويقيّمون أداءها على الأغلب بالعدد الذي تقتله وبمدى ما تدمره في المدينة وضواحيها. وهم لا يقيمون وزناً للفرق بين أهداف مدنية وأخرى عسكرية، بل يتجاهلون المشافي والمدارس والمخابز والمعامل زاعمين بإصرار أنها كلها أهداف مسوغة وأنها كلها مواقع إرهابيين. وهم يصمون آذانهم ويغلقون عيونهم عن أي دليل يثبت إجرامهم، بل يتبجح سياسيوهم وممثلوهم في المحافل الدولية بانتصاراتهم على أهل المدينة، ويرفضون بإصرار الإقرار بما أصبح واضحاً تماماً من أنهم يريدون إنهاء وضع الثوار في حلب قبل تسلّم الإدارة الأميركية الجديدة مسؤولياتها في كانون الثاني (يناير) المقبل، على رغم الود المتبادل بين بوتين وترامب.
هؤلاء المغول الجدد يستخدمون طيرانهم الصعب المنال الذي يأتي من السماء ويقصف ويقتل من دون خوف من عقاب، لامتناع حلفاء الثورة عن تسليم أي فصيل فيها ما يمكّنه من اصطياد هذه الطائرات الروسية. حتى الحليف التركي المتذبذب، الذي أسقط يوماً واحدة من هذه الطائرات الروسية، قرر، على ما يبدو، وضع يده بأيدي المغول الجدد وتقاسم الغنيمة معهم. وهو فوق ذلك قنع بحصته الصغيرة على طول الحدود بين سورية وتركيا، وترك حلم ضم حلب الى ما أخذته بلاده سابقاً، بعد معاهدة لوزان عام ١٩٢٣ من أراضي ولاية حلب من أضنة إلى ماردين ومرعش وغيرها. أما مقاتلو شرق حلب فلا بد أنهم واعون أنهم أصبحوا ورقة قليلة الأهمية في أيدي اللاعبين الدوليين والعرب بمصير سورية، وأن أحداً من حلفائهم لن يمدهم بما يسمح لهم بأي مقاومة حقيقية.
فهل تقرر مصير حلب؟ يبدو ذلك. ويبدو أن المدينة ستضيف في مستقبلها إلى ذاكرتها الجمعية غزوة مغول الـ٢٠١٦ كغزوة مدمرة أخرى في تاريخها الطويل، غزوة لابد أن تقوم بعدها وإن كان الثمن غالياً جداً والمأساة جد كبيرة اليوم.
وسوم: العدد 697