لسان زي المبرد!
خلق الله بعض الناس بألسنة حادة مثل السكين، تجرح، وتقطع، وتقتل، بسبب كلامها اللاذع، وأجوبتها المفحمة، التي تخرج رصاصة فجائية لا يُستطاع إيقافها!
فاسمح لي بشيء من المشاكسة قارئي العزيز، وأن أتجول بك بين أصحاب الألسنة الطوال، والردود المسكتة، والكلمات المبهتة، التي تجعل سامعها يخرس ويحار.. وهذا فن يقدر عليه الأذكياء، وبعض سليطي اللسان، وبعض أصحاب الحق الذي لا يدعون لأحد بعد قولهم مقالاً!
وأنا ضمينٌ أنك ستطرب وتضحك من جرأة بعض الردود، وسلاطتها.. وفي القرآن الكريم والسنة وأقوال الحكماء والمشاهير، ما يبعث على الاندهاش والإعجاب، فاسمح لي أن أبسطها، وأطعِّمها بشيء من الإيضاح بالعامية التي تقرب المعنى، وتسلط الضوء على حد السكين اللفظي الجارح!
* بينا أحد المتعجرفين في مجلسه، إذ حطت عليه ذبابة (غِلسة) لم تفتأ تحط عليها، فإذا هشّها لم تلبث أن تعود، حتى ضجر؛ فدخل عليه العالم القرآني مقاتل ابن سليمان، فسأله المتعجرف:
يا أبا الحسن: أتعلم لماذا خلق الله تعالى الذباب؟
فقال: نعم يا سيدي؛ ليذل الله عز وجل به الجبابرة! فسكت محرجاً!
* يروون أن كسرى جلس يوماً للنظر في مظالم الرعية، فتقدم إليه رجل قصير، وجعل يقول: أنا مظلوم! فلم يلتفت إليه كسرى، فقال الوزير: أنصف الرجل!
قال كسرى: إن القصير لا يظلمه أحد!
فقال القصير: الذي ظلمني أقصر مني!
* ويروون أنه تحاكم إلى الشاعرة الفحلة ليلى الأخيلية، صاحبة توبة، عدد من شعراء هوزان: النابغة الجعدي الهلالي، وتميم ابن أبي بن مقبل العجلاني، والعجير السلولي، فحكمت بأفضلية العجير على الآخرين، قائلة:
ألا كلّ ما قالَ الرواة وزينوا به غير ما قال السلوليُّ بهْرجُ
فغضب النابغة الجعدي، وهجاها بألفاظ بذيئة من أخفها:
كأنَّك ليلى بغلةٌ تدْمريةٌ رأت حُصُناً.. فعارضتهنَّ تَشْحجُ
ثم قال:
ألا حيّيا ليلى وقولا لها: هلا فقد ركبتْ (....) أغرَّ محجَّلا
وكيف أهاجي شاعراً رمْحه استهُ خضيبَ البنانِ .. ما يزال مكحَّلا
فبلغها قوله فأجابته بجواب قطع لسانه وأحرج قومه::
تعيرني داءً بأمك مثلُه؟! وأي حَصانٍ لا يقال لها: هلا?!
فانقطع النابغة الجعدي!
* دخل الشاعر الكفيف بشار بن برد على الخليفة المهدي ليسمعه قصيدة، وكان خال المهدي موجوداً، فسأله الخال: يا هذا ما صنعتك؟
فرد الشاعر: أثقب الخرز!
فنهره المهدي وقال له مغالباً ضحكته: ويحك أتسخر من خالي؟
قال يا أمير المؤمنين: يراني رجلاً أعمى يتهيأ لإلقاء قصيدة، ثم يسأل: ما صنعتك؟ فبم أجيبه؟!
* سأل أحدهم حكيماً: ما خير ما يُرزقه العبد؟
قال: عقل يعيش به. قال: فإن عدمه؟ قال: أدب يتحلى به، قال: فإن عدمه؟
قال مال يستره..
قال: فإن عدمه؟ قال: فصاعقة تحرقه وتريح منه العباد والبلاد!
* جاء رجل إلى الجاحظ وقال له: سمعت أن لك ألف جواب مسكت، فعلمني منها، فقال له الجاحظ: لك ما تريد..
فقال الثقيل: إذا قال لي رجل يا ثقيل الدم، ويا خفيف العقل، فبماذا أجيبه؟
فقال الجاحظ: قل له صدقت!
* قال رجل يهودي لسيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه: ما دفنتم نبيكم حتى قالت الأنصار: منّا أمير، ومنكم أمير!
فقال له عليّ: أنتم ما جفّت أقدامكم من ماء البحر، حتى قلتم: (اجعل لنا إلهاً كما لنا آلهة)!
* كان الشاعر المعروف الشريف الرضي يكره المتنبي، ويتحدث عنه بالسوء. في أحد المجالس ذكُر المتنبي، فأخذ الشريف الرضي بذمه أمام الآخرين، وكان أبو العلاء المعري موجوداً – وكان معروفاً بإعجابه للمتنبي - فأراد الدفاع عنه فقال:
لو لم تكن له إلا قصيدته اللامية التي مطلعها:
لك يا منازل في القلوب منازلُ أقفرتِ أنت وهنّ منك أواهلُ
لكفاه ذلك فخراً!
فغضب الرضي غضباً شديداً، وأمر بإخراج أبي العلاء من المجلس، ثم سأل من حوله: أتدرون ماذا أراد الأعمى بذكر القصيدة اللامية؛ فإن للمتنبي قصائد أجود منها؟
لقد عرّض بي ببيت منها، هو الذي يقول:
وإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ فهي الشهادة لي بأني كاملُ
* ومن اللطائف أن رجلاً استأجر داراً خشبية قديمة، كان سقفها دائم القرقعة، فقال لصاحب المنزل: أصلح خشب هذا السقف فإنه يقرقع، فقال المالك (مستهبلاً):
إنه يسبح الله تعالى! فرد المستأجر الظريف: أخشى أن تدركه رقة، فيسجد..
وقد أبدع تصوير هذا المعنى هذا الشاعر الظريف نصير الدين المحامي المصري الذين يصف داره:
ودارٍ خرابٍ بها قد نزلتُ ولكن نزلتُ إلى السابعة
تساورها هفوات النسيمِ فتُصغي بلا إذنٍ سامعة
وأخشى بها أن أقيم الصلا ة فتسجدَ حيطانُها راكعة
إذا ما قرأتُ: إذا زلزلت خشيت بأن تقرأَ الواقعة
وقال أبو العيناء لأحمد بن أبي دؤاد: إنّ قوماً تضافروا عليّ، فقال: (يَدُ اللهِ فوق أيديهم)!
قلتُ: إنّهم عدد وأنا واحد؟ فقال: (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة)!
قلتُ: إنّ للقوم مكراً؟ فقال: (ولا يحيق المَكْرُ السيءُ إلا بأهله)!
وأضاف إبراهيم بن أدهم أناساً، فلمّا جلسوا للطعام أخذوا في الغيبة، فقال لهم:
إنّ مَنْ قبلنا كانوا يأكلون الخبز قبل اللحم، وأنتم أكلتُم اللحم قبل الخبز!
وشهد الحسن البصري جنازة، فقال لصاحب له: أترى لو رجع للدنيا لعمل صالحاً؟ فقال: نعم، نعم! فقال الحسن البصري: فإن لم يكن هو، فكنْ أنتَ.
وقحطت البادية في أيام (هشام بن عبد الملك)، فقدمت عليه العرب فهابوا أن يتكلموا وكان فيهم مرداس بن حبيب، وهو إذ ذاك صبي، فلما وقعت عليه عين هشام قال لحاجبه مستاء: ما يشاء أحد يدخل علي إلا دخل، حتى الصبيان؟
فقال الصبي: يا أمير المؤمنين، إنا أصابتنا سنون ثلاث: سنة أذابت الشحم، وسنة أكلت اللحم، وسنة نقت العظم (أي أخرجت ما به) وفي أيديكم فضول أموال؛ فإن كانت لله ففرقوها على عباده..
وإن كانت لهم فعلام تحبسونها عنهم؟
وإن كانت لكم فتصدقوا بها فإن الله يجزي المتصدقين، ولا يضيع أجر المحسنين، فقال هشام: ما ترك لنا هذا الغلام في واحدة من الثلاث عذراً، فأمر للبوادي بمائة ألف دينار، وله بمائة ألف درهم، فقال الصبي:
ارددها يا أمير المؤمنين إلى جائزة العرب، فإني أخاف أن تعجز عن بلوغ كفايتهم، فقال هشام: أما لك حاجة؟ قال الصبي:
ما لي حاجة في خاصة دون عامة المسلمين، فخرج الصبي وهو أنبل القوم وأكرمهم..
ومن طرائف الصغار ذوي الألسنة الطويلة والذكاء الحاد أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، كان وسط مجموعة من الصبيان يلعبون، فلما رأوا سيدنا عمر – وكان ذا مهابة - فر الصبيان إلا عبد الله، فاستدناه الفاروق وسأله:
ليه ما جريتش زي أصحابك يا عبد الله؟
فقال الصبي الجسور: لماذا أفر يا أمير المؤمنين؟! ليست الطريق ضيقة فأوسع لك، ولم أرتكب ذنباً فأخاف منك!
هذه قصة منقولة عن الشيخ الدكتور الظريف محمد العوضي في معرض حديثه عن أهمية حفظ القرآن الكريم، وأن من يحفظ القرآن يصبح حجة، يقول:
درست في جامعة تركية، وكان لنا زميل تركي متدين، حافظ للقرآن، فطن ذكي، صاحب بديهة.. وكان أحد الذين يدرسوننا خبيثاً متطرفاً في علمانيته، ودائماً ما كان يدس السم في حديثه، ويغمز بعض الأحكام السلامية، ويعرض بالتشريعات الربانية.
وفي إحدى محاضراته قال: القرآن كتابنا العظيم وتراثنا القديم فيه أخلاق ومواعظ لكن ليس فيه كل شيء!
فقام الزميل وقال: يا دكتور، إن الله يقول في كتابه: "وكل شيءٍ أحصيناه في إمام مبين" والإمام المبين هو القرآن العظيم.. فكيف تقول ليس فيه كل شيء!
فغضب الدكتور وقال: أنت تقول أن فيه كل شيء!
فقال الطالب بثقة: نعم!
قال الدكتور: طيب: هل صلعتي هذه موجودة في القرآن!؟
فقال الطالب ببساطة: نعم يا دكتور، صلعتك موجودة في القرآن!
فقال الدكتور، وقد ظن أنه سيحرج الزميل: أين صلعتي في القرآن.. دلني!
فقال له: موجودة في قول الله عز وجل: "والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه، والذي خبث لا يخرج إلا نكداً"! وعقيدتك خبيثة، وفكرك خبيث؛ لذلك لم ينبت لك شعر!
فضجت القاعة بالضحك، وسكت الأستاذ خائباً!
ويحكون عن ولد بلسانين سمع قول المتنبي مادحاً نفسه:
وإني وإن كنت الأخير زمانهُ لآت بما لم تستطعه الأوائلُ
فرد على الفور: الحروف الهجائية 28 .. زوِّد عليها واحد لو كنت جدع... فانكتم!
وفي الموضوع طرائف عصرية مبهجة تأتي إن شاء الله..
وسوم: العدد 697