هولاكو وابن العلقمي...
* مما أورده الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في البداية والنهاية (باختصار) أن المستعصم بالله كان الخليفة السابع والثلاثين من خلفاء بني العباس ، وكان له وزير يسمى محمد بن محمد بن أبي طالب المشهور بابن العلقمي ... كتب كتاباً إلى هولاكو ملك التتار يبدي له استعداده أن يسلمه بغداد ، وكان التتار قد هُزموا في عهد المستنصر بالله وقُتل منهم خلق كثير ، فكتب هولاكو لابن العلقمي بأن عساكر المسلمين على بغداد كثيرة ، فإن كنت صادقاً فيما قلت لنا وداخلاً تحت طاعتنا ففرِّق العسكر ، فإذا عملت ذلك حضرنا. فلما وصل كتاب هولاكو إلى ابن العلقمي دخل على المستعصم وزيّن له أن يُسرّح خمسة عشر ألف فارس من عسكره ، لأنه لا داعي لهذا العدد الضخم الآن ولأن التتار قد رجعوا إلى بلادهم ولا حاجة لتحميل الدولة رواتب هؤلاء العساكر ، ولثقة الخليفة بوزيره كما هي العادة استجاب لرأيه وأصدر قرارا بتسريح خمسة عشر ألف عسكري ، فخرج ابن العلقمي ومعه الأمر ، فاستعرض الجيش واختار تسريح أفضلهم وأمرهم بمغادرة بغداد وكل ملحقاتها الإدارية وفرقهم في البلاد ، وبعد عدة أشهر زيّن للخليفة مرة أخرى أن يسرّح عشرين ألفا فاستجاب له وأصدر أمراً بذلك ، ففعل ابن العلقمي مثلما فعل في المرة الأولى وانتقى أفضل الفرسان فسرّحهم ، فأصبح عدد الجيش لا يزيد على عشرة آلاف . ولما أتم مكيدته كتب إلى هولاكو بما فعل فركب وقدم بجيشه إلى بغداد ، وأحس أهل بغداد بمداهمة جيش التتار لهم فاجتمعوا وتحالفوا وخرجوا إلى ظاهر المدينة وقاتلوا ببسالة وصبر حتى حلت الهزيمة بجيش التتار مرة أخرى ، وتبعهم المسلمون وأسروا منهم وعادوا مؤيدين منصورين ومعهم الأسرى ورؤوس القتلى ونزلوا في خيامهم مطمئنين ، فأرسل المنافق الرافضي ابن العلقمي جماعة من أصحابه ليلاً فحبسوا مياه دجلة ففاض الماء على عساكر بغداد وهم نائمون في خيامهم وصارت معسكراتهم مغمورة ومحاطة بالوحل وغرقت خيولهم وأمتعتهم وعتادهم بالوحل والناجي منهم من أدرك فرساً فركبه وخرج من معسكر الوحل ، وكان ابن العلقمي قد أرسل إلى هولاكو يعلمه بمكيدته ويدعوه أن يرجع بجيوشه ، فعاد هولاكو بجيوشه وعسكر حول بغداد وفي الصباح دخل التتار بغداد فوضعوا السيف في أهلها وجعلوا يقتلون الناس كباراً وصغاراً شيوخاً وأطفالا ، ودخلوا على الخليفة فاحتملوه هو وولده وأحضروهما إلى هولاكو ، فأخرجهما إلى ظاهر بغداد ووضعهما في خيمة صغيرة ثم أمر عسكره بقتلهما ضرباً بالأرجل ، فوضعوا الخليفة في كيس وقتلوه رفساً، ثم دخل التتار دار الخلافة فسلبوا ما فيها وصاروا يقتلون كل من يشاهدون حتى بلغ القتلى ألفي ألف نفس ـ أي مليوني قتيل ـ واستمر التتار أربعين يوماً وهم يقتلون في الناس فما تركوا أحداً - قال ابن كثير رحمه الله : استمر القتل أربعين يوماً في بغداد فصارت بعد الأربعين خاوية على عروشها ليس فيها أحد إلاّ الشاذ من الناس والقتلى في الطرقات كأنها التلال وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم وأنتنت من جيفهم البلد وتغير الهواء ، فحصل الوباء الشديد حتى تعدى وسرى الهواء إلى بلاد الشام فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح فاجتمع على الناس الوباء والفناء والطعن والطاعون فإنا لله وإنا إليه راجعون ، ولما نودي بالأمان في بغداد خرج عدد من الناس ممن قد اختبأ تحت الأرض ليسلم من القتل وبعضهم حفر المقابر ودخل فيها فلما نودي بالأمان خرج من تحت الأرض ومن المقابر ، وقد أنكر بعضهم بعضاً فلا يعرف الوالد ولده ولا الأخ أخاه ، فلما خرج هؤلاء أصابهم الوباء المنتشر بسبب تلوث الهواء فماتوا على الفور - يقول ابن كثير : وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى واجتمعوا تحت الثرى بأمر الذي يعلم السر وأخفى - وأخيرا استدعى هولاكو ابن العلقمي ليكافئه فحضر بين يديه فقال له : لو أعطيناك كل ما نملك ما نرجو منك خيراً ... فإنك لم تحسن لأهل ملتك فما نرى إلا أن نقتلك ، ثم أمر بقتله فقُتل شر قتلة.ج
وسوم: العدد 700