ماركيز وكوبري السلطة!
أ.د. حلمي محمد القاعود
في 16 من أبريل ؛ رحل الكاتب الكولمبي الأشهر جابرييل جارسيا ماركيز(1927ـ2014) ، الحائز على جائزة نوبل في الآداب عام 1982، وصاحب مجموعة من أشهر الروايات والقصص على مستوى العالم ؛ في مقدمتها : " خريف البطريرك "، "مائة عام من العزلة "، و"الكولونيل لا يجد من يكاتبه" و"الحب في زمن الكوليرا"، وقد كان مسوغ حصوله على نوبل أن أسلوب كتابته "يمتزج فيه الخيال والواقع في إطار شعري يعكس نزاعات قارة والحياة اليومية فيها".
لقد تناولت أقلام عديدة جوانب مختلفة من حياة ماركيز ، وتنافس المثقفون والكتاب العرب في الإشادة بالرجل فور رحيله ورفعه إلى السماء من خلال تصريحات ملأت الفضاء الصحفي والإعلامي ، فقد وصفوه بالعلامة الفارقة فى تاريخ الرواية العالمية ، والكاتب العظيم المسئول، الذي يعد إنتاجه جزءا من مسئوليته اتجاه العالم ، ، وأبدى بعضهم إعجابه بماركيز على المستوى الشخصى، لأنه كان معاديا للصهيونية وأجّر صفحة فى إحدى الجرائد الفرنسية على حسابه الشخصى ليندّد فيها بالمذابح التى حدثت فى صبرا وشاتيلا. فضلا عن أنه نقل الرواية إلى عصر جديد ، وأنه أهم روائى فى القرن العشرين ، وقد أعان الملايين على تحمل قسوة أقدارهم ، وأصبح مضيئًا فى ذاكرة البشرية ، ويعد رحيله خسارة كبيرة للحياة الأدبية وانهيارا لأحد ركائز الأدب ، كما رآه آخرون" نجيب محفوظ " أميركا اللاتينية ، وقال بعضهم : إنه محظوط لأنه عاش فى زمن ماركيز واستمتع بأعماله مثل خريف البطريرك التى جسدت حكايتنا وحكاية كل الشعوب التى حكمها ديكتاتوريون عسكريون. وأورد غيرهم وصف الرئيس الفرنسي الاشتراكي لكتابات ماركيز بأنها جسدت النضال ضد الإمبريالية ....
هذه الحفاوة بماركيز بدت وكأنها إدانة غير مباشرة لمثقفينا وكتابنا وخاصة الذين يتصدرون المشهد الثقافي على مدى عقود مضت ، لأنهم لو كانوا مؤمنين حقا بماركيز وأدبه وسيرته لساروا على دربه وفعلوا فعله ولكنهم اكتفوا بالإشادة بأدبه ومواقفه دون أن يكونوا جزءا منها أو صدى لها على أقل تقدير .
كان ماركيز واحدا من عشرات المثقفين والكتاب في أميركا اللاتينية الذين جعلوا همهم الأساسي مواجهة الطغيان العسكري والاستبداد البوليسي والديكتاتوريات التي تشبه العصابات وحكمت دول أميركا اللاتيبنية بالحديد والنار والدم والتعذيب . لقد شكلوا طليعة للمقاومة الشجاعة التي رفضت الترغيب ولم تخش الترهيب وعاشوا في المنافي والسجون يكتبون من أجل الحرية والديمقراطية والكرامة حتى سقطت حكومات القهروالجريمة والنهب والتبعية ، ولم يتماهوا كما فعل مثقفونا وكتابنا أو معظمهم مع الحكومات الظالمة ، ولم يتفرغوا لتسويغ استبدادها وتبرير جرائمها وإقناع الشعوب العربية أن الحرية لا تليق بها وأن البيادة خير وأبقى !
عرفت أميركا اللاتينية عشرات الكتاب والشعراء الذين دفعوا ثمنا غاليا من اجل الكلمة الملعونة " الحرية " ، ولم يخدعوا شعوبهم أويكذبوا عليها أو يدلسوا كما نرى في المشهد الراهن في بلادنا العربية . أذكر من عشرات الكتاب في أميركا اللاتينية : خوليو كورتاثر - كارلوس فوينتس - بابلو نيرودا - أدولفو بيوي كاساريس - لورا ريستريبو - لورا إسكيبيل - أوجوستو مونتيروسو - إدموندو باس سولدان - رومولو جايجوس - خوان رولفو - إرنستو ساباتو - أجناسيو مانويل التاميران - ميجل أنخل أستورياس - ماريو فارجاس يوسا - خوسيه مارتي - خورخي لويس بورخيس - أكتافيو باث - ألفونسو رييس أوتشوا - خوان ليون ميرا - خوسيه ماريا بارجاس بيلا - مارثيلا سيرانو ....
هؤلاء وغيرهم لم يتكلموا عن الحاكم الضرورة ولا الزعيم الملهم ولا القائد التاريخي ، ولم يستخدموا اللغة الزئبقية ولا المعجم المراوغ ، ولكنهم كانوا واضحين وضوح الشمس في يوم صحو عندما يعبرون عن قضيتهم الأساسية وهي الحرية .
عندنا يتفاخر أحدهم مثلا أنه عند زيارة زوج أحد الرؤساء الراحلين لإحدى الدول في أميركا الشمالية قال لها : إن الرئيس سيدخل التاريخ لو نجح في إقرار تبادل السلطة سلميا في البلاد ! ولكن هذا المثقف الشجاع (؟) ظل ثلاثين عاما بعد زعمه هذا في معية الرئيس الديكتاتور اللاحق يتصدر المشهد الثقافي ، ويبرر خطايا الاستبداد وجرائم الطغيان !
إن تاريخ من يتصدرون المشهد الثقافي الراهن منذ عقود يؤكد أنهم يبحثون عن المنفعة والشهرة بأي ثمن ، ويعتقدون – كما صرح أحدهم - أن عدم نشر أسمائهم وصورهم كل أسبوع سيجعل الناس تنساهم ، وأن الشهرة تحتاج إلى كوبري مع السلطة ( الكوبري هو الجسر الذي يصل ما بين ضفتين ) وبدون هذا الكوبري لن يحصل المثقف على لقب كاتب كبير! ومع ذلك فهناك ممن أقاموا هذا الكوبري من أصيب بالإحباط لأنه فقد القدرة على الإنتاج الأدبي والفكري !
لقد عاش ماركيز منذ عام 1961 في المكسيك هاربا من بلده كولومبيا وكان لاجئا مع مئات من زملائه من كتاب أميركا اللاتينية الهاربين من العسكر والحكام الطغاة واستطاعت كتاباته في المنفى أن تغزو العالم كله بما فيه أميركا اللاتينية ، وأن تكون هذه الكتابات وقود الحرية الذي لا ينطفئ .
قارن هذا ببعض مثقفينا أدعياء النضال عندما يشيد بفخامة الرئيس الذي وضع يده على كتفه ، في مناسبة ثقافية وهو يقول له : كيف حالك يا ...؟
من المفارقات أن ماركيز يبدو أكثر عروبة من بعض مثقفينا الذين يشيطنون الفلسطينيين ويدعون إلى التطبيع مع العدو، فقد دافع ماركيزعن الجزائر وسجن مع الجزائريين في باريس ، ووقف مع الفلسطينيين في كفاحهم ضد الصهيونية ، واستنكر ماجرى لهم في صبرا وشاتيلا وندد بالكتاب والمثقفين العالميين الذين صمتوا على الجريمة البشعة خوفا من اتهامهم بمعاداة السامية ، وأصدر بيانا قويا قال في نهايته أنا جابرييل جارسيا ماركيز أوقّع على هذا البيان منفرداً!
هل كان ماركيز يستطيع أن يحقق من خلال كوبري السلطة هذه المكانة التي وصل إليها ؟ كلا...