الثورة السورية ضد الاستعمار أم في أحضانه؟

تتابعت مفاعيل وقف إطلاق النار في سوريا، ولا زال الجو ملبدا بالغيوم والوضع مفتوحا على المتغيرات، وهذا المقال يناقش خلفيات ومآلات تلك التطورات من المنظور السياسي والحضاري، وخصوصا بعدما أصدرت الفصائل السورية - التي التزمت باتفاق وقف إطلاق النار في سوريا - السبت، بياناً أكدت فيه أن استمرار النظام السوري في انتهاكاته وخروقاته لوقف النار واقتحامه مناطق تسيطر عليها المعارضة، سيجعل الاتفاق الذي وقّع مساء الخميس في أنقرة لاغياً. (العربية نت 31/12/2016). وفي سياق متصل، ذكرت القدس العربي (31/12/2016) أن فصائل الجبهة الجنوبية التابعة للمعارضة السورية أبدت امتعاضها لتهميشها في المشاورات التي أدت لإبرام وقف إطلاق نار في سوريا. ولذلك شدد وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، ونظيره التركي، مولود جاويش أوغلو، على أهمية تمسك جميع فصائل المعارضة السورية بشروط وقف إطلاق النار (روسيا اليوم 31/12/2016). 

من المعلوم أن أمريكا - تحت إدارة الديمقراطيين - قد التزمت مسار "القوة الناعمة"، وظلت تسير على قطار الحلول السياسية، وتدفع نحو إنجاح مسيرة المفاوضات للحفاظ على أركان النظام وولائه لها، منذ انطلاق الثورة. ولما تعثر المسار السياسي واحتاج استخدام القوة الصلبة والهجمة العسكرية لمنع سقوط النظام ولترويض الثوار على القبول بالحل السياسي، وجدت الدب الروسي جاهزا لأن يلطخ وجهه بعار قصف المدنيين، والدفاع عن الدكتاتور بشار، ثم وجدت أمريكا في حليفها أردوغان لاعب السيرك القادر على ترويض الفصائل التي تتحرك في فناء تركيا الخلفي، وترتع في أكنافها.

ولذلك، فإن وقف إطلاق النار هو نتيجة تلك المؤامرة المركبة، والتي اجتمعت فيها القوى الاستعمارية في الغرب والشرق مع الدول الإقليمية، ضد ثورة الشام رغم اختلاف مصالحها، والتقت على مصلحة واحدة مشتركة، وهي نزع فتيل هذه الثورة المميزة بما تحمل من مكنون حضاري، ومن تهديد لمصالح المستعمرين.

وقد سبق للقادة والزعماء أن عبّروا عن قلقهم من أن النزاع في سوريا "تحول سرطانا على نطاق دولي"، حسب وصف الأمين العام المقبل للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس قبل أيام (سكاي نيوز عربية 29/12/2016). بل وصل الحد للتعبير عن تهديد الثورة للنظام العالمي بأسره، كما نقلتسي إن إن عربية (19/12/2016) عن السيناتور الأمريكي ماكين قوله إن ما يحدث بسوريا إشارة محتملة لانهيار نظام العالم. وكان لافروف سباقا للتصريح بالتحذير من انبثاق الخلافة في سوريا. وقبل أكثر من عام، نقلت شبكة شام (12/10/2015) عن وزير الخارجية الروسي لافروف، قوله إن الرئيس الروسي، بحث مع ولي ولي العهد السعودي، عملية سلام في سوريا، مشيراً إلى أن هناك اتفاقاً بين روسيا والسعودية على منع قيام "خلافة إرهابية" في سوريا، على حد قوله.

إذن، فإن أية محاولة لفهم مجريات الثورة في سوريا - وما آلت إليه الفصائل من وقف إطلاق النار - خارج سياق ما تمثله الثورة من تحد حضاري للقوى الاستعمارية هو قفزة على الحقائق السياسية الراسخة. ويبدو أن قادة الفصائل العسكرية لم يعودوا قادرين على استيعاب هذا الفهم السياسي، الحاضر في أذهان زعماء العالم والدول الإقليمية، مما قد يكون نتيجة عملية تخدير طويلة تعرضوا لها، وهم يتلقون الدولار الأسود من جيوب "الحلفاء"، وأيضا نتيجة عملية تذويب فكري لأهداف الثورة وتمييع سياسي لها، من خلال حصر المطالب الثورية بالحرية والكرامة، مما ظلّت تعزف له "أبواق" معتدلة، فهمت معادلة "الحلفاء"، أو انخدعت بشعارات فضفاضة، رغم أنها فشلت في إحداث تغيير حقيقي في مصر بعد تونس.

وإنه مما لا شك فيه أن المفاوضات - التي يريد الغرب والشرق أن تعقب وقف إطلاق النار - هي مجرد أداة تسخرها الدول الاستعمارية كما تسخر الحروب العسكرية لترسيخ هيمنتها وتحقيق مصالحها، وتمكين عملائها، وكان الأجدر بقادة الفصائل أن يعتبروا بمسيرة منظمة التحرير الفلسطينية، التي أبدع كبير مفاوضيها فلسفة جديدة، عندما قال "الحياة مفاوضات".

ولقد تتابعت المؤتمرات المتعلقة بثورة الشام دون أن توقف شلال الدم المتفجر، وظلت الدماء تراق رغم جعجعة المفاوضين في جنيف وأخواتها، فما الذي سيستجد في أستانة- كازاخستان؟

إنه من المتوقع أن يظل وقف إطلاق النار هشّا، من الناحية الميدانية، وإذا أضفنا إليه هشاشة صورة قادة الفصائل في أنظار الثائرين في سوريا، فإن ما يجري اليوم هو جولة لا حسما، وقد أرادها أوباما أن تكون خاتمة - ولو شكلية - لإدارته، يدّعي فيها نوعا من الإنجاز، وخصوصا عندما نلاحظ التاريخ المحدد للبدء بالعملية السياسية، وهو (16/1/2016) (انظر تقرير أورينت نيوز في 31/12/2016)، وذلك في الأسبوع الأخير لأوباما في البيت الأبيض.

والخلاصة أنه إن لم يستيقظ الصف الأول من قادة الفصائل العسكرية من سكرة الدولار التركي والخليجي، ومن غباء الثقة بالدب الروسي كضامن لبشار المجرم، فإن الصفوف التي تليه ستستيقظ بإذن الله. وأنّى لثورة الشام التي انطلقت من المساجد ورفعت شعار "هي لله هي لله"، أن تتحول إلى شعار هي للطاغوت الروسي والأمريكي؟! ولن يطول الزمان حتى تتجدد الثورة ويتجدد القادة، لأن ثمة بونا شاسعا بين الثورة ضد الاستعمار وبين "الفعفطة" من أجل إعادة إنتاج الاستعمار، ورمي الثورة في أحضان المستعمرين عبر مسار الحل السياسي الأمريكي.

وسوم: العدد 701