أدبيات سياسية 3-8

أدبيات سياسية: المقالة الثالثة

              صناعة العقائد الفاسدة: سهلة.. ومدمّرة!

قال الشاعر :

 ويَنشأ ناشِئُ الفِتيانِ فينا           على ما كان عوّدَه أبوه !

إنّ أخطرَ ما يعوّد الأب ابنَه عليه ، وأخطر ما يعلّمه إياه ، وما يورّثه إياه، هو العقيدة ، صالحةً كانت أم فاسدة ، ربّانية كانت أم شيطانية بشَرية!

وإنّ أسهلَ ما يمكن أن يبتكره الإنسان ويصنعه ، هو العقيدة كذلك ..! إلاّ أن العقيدة المبتكَرة ، أو المصنوعة ، هنا ، لا تكون إلاّ فاسدة ، لأن العقيدة الصالحة لا تكون إلاّ ربانية ، منزلة من السماء . وما يبتكره الناس ، من أفكار وقيَم صالحة ، لا يَدخل في باب العقائد ، إنّما هو عادات وتقاليد وأعراف . فالعقيدة الربّانية لا تقبل الزيادة أو النقص ، وكل ما يزاد عليها ،أو ينقَص منها ، يفسدها!

وإن العقائد الصالحة واضحة كلها ، قابلة للحوار والمناقشة ، يلتزم بها الناس بناء على اقتناع عقلي. وقد حاجّ الأنبياء أقوامهم ، بالرسالات التي بعِثوا بها ، وأقاموا عليهم الحجّة ، فآمَن مَن آمَن عن بيّنة ، وهلَك مَن هلَك عن بيّنة !

أمّا العقائد الفاسدة ، فلا تقبل الحوار ولا المناقشة ، لأنّها ملفّقة هَشّة ، تسقط عند أبسط تأمّل عقلي سليم . لذا يلتزم بها أصحابها التكتّم والغموض! ولذا سمّى علماء المسلمين كثيراً منها ب: (الحركات الباطنية) !

 مثال : لو أنّ رجلاً ذا عقيدة ربانية ، خطرت له فكرة عابرة أعجبته ، فأحبّ أن يضيفها إلى عقيدته ، فأفسَدها ، ثمّ لقّن هذه العقيدة الجديدة لأبنائه وهم صغار، فإنّ هؤلاء الأبناء ، سيلقّنونها لأبنائهم كذلك ، ثم يلقّنها أبناؤهم لأبنائهم وهكذا ..! لو جرى هذا ، فإنّ هذه العقيدة ستصبح بعد ثلاثة أجيال ، أو أربعة ، ديناً لمئات من البشر..!هذا إذا ظلّت العقيدة في إطارهذه الأسرة. فإذا ثقِفَها رجال آخرون ـ ثلاثة رجال ، أو أربعة ـ ولقّنوها لأبنائهم ، ثم لقّنتْ لأحفادهم مِن بَعدهم ، فإن المؤمنين بها ، بَعد عشرات السنين ، سيكونون شعباً كاملاً ! سواء أكان أصل هذه العقيدة إسلامياً ، أم يهودياً ، أم نصرانياً !

ولو كانت العقيدة المبتكرة ، صناعة بشرية خالصة ، ليس لها أصل ربّاني ، فإنّ النتيجة ستكون واحدة ، من حيث كثرة أتباعها أو معتنقيها ، مع الزمن .

 نماذج :

لقد حرّف بعض أحبار اليهود ، بعضَ النصوص الواردة في التوراة ، ثمّ لقّنوها لأتباع ديانتهم ، وطفِق هؤلاء الأتباع يلقّنونها مَن بَعدهم ، إلى يوم الناس هذا . ولا يجرؤ أحد منهم ، على الشكّ بحرف واحد ، من هذه العقيدة الفاسدة المحرّفة ، مخافةَ الطرد من الملّة ، أو مخافةَ العذاب الذي يحلّ بالمنحرفين والمجدّفين والضالّين .. في الدنيا ، أو في الآخرة ! بعض القسّيسين حرّفوا بعضَ نصوص الإنجيل ، بالزيادة والنقص ، ولقّنوا العقيدة الجديدة المحرّفة ، لأتباع ديانتهم في زمنهم ، وصار كلّ جيل يورّث هذه  العقيدة لِمن بَعده ، حتى هذه الساعة ! ومَن شَكّ في صحّة عقيدته هذه، أو صحّة شيء منها ، طُبّق عليه قانون (الحرمان) ، وطرِد من الملّة، وحوصِر في عمله ورزقه ، وقوطِع حتى مِن أقرب الناس إليه ، زوجِه وأولاده ! بعض العقائد المنحرفة المحرّفة ، التي لها أصل إسلامي ، ابتكَرها بدايةً، بعض الماكرين اليهود ، من أمثال : عبدالله بن سَبأ ، الملقّب بابن السوداء، وغيرِه.. ثم ثَقِفها بعض الجهلة والسذّج ، واعتنقوها ، ثم لقّنوها لأبنائهم، وثَقِفها أحفادهم مِن بَعدهم ، وهكذا ..! وأتباعها اليوم يعَدون بالملايين في أنحاء العالم ! في العصر الحديث ، نشأت عقائد وديانات لم تكن معروفة من قبل ، إنّما ابتكرها بعض شياطين الإنس ، ولقّنوها لمجموعات ممّن حولَهم ، من المغفّلين والسذّج ، فصارت مع الزمن ، ومع كثرة أتباعها ، دياناتٍ يطالِب أصحابها بحقوق لهم ، في أوطانهم ومجتمعاتهم ، ومنها حقّ الاعتراف بالديانة ،على أنها إحدى الديانات المعتبَرة ! ويبنى على هذا الاعتراف، الإقرار بقوانين الأحوال الشخصية لأتباع هذه الديانات ، وإعطاؤهم سائر الحقوق الاجتماعية والسياسية ، التي تتمتّع بها سائر الفئات في الوطن ! بل يثيرون زوابع سياسية أحياناً ، داخل أوطانهم ، وفي الهيئات والمؤسّسات الدولية ، ومنظّمات حقوق الإنسان .. يَتّهمون فيها مجتمعاتهم وحكوماتهم، بأنها تضطهدهم بصفتهم أقلية ، وتحرمهم من حقوق المواطنة . ويستعدي أصحاب الديانات (المبتكرة !) هؤلاء ، القوى الكبرى في المجتمع الدولي ، ضدّ أوطانهم ! ومِن هذه الديانات الحديثة المبتكرة : البهائية ، والقاديانية..! وهذا كله ، في مجتمعات ودول تنتمي إلى أمّة الإسلام ! ومن الديانات والعقائد المبتكرة ، ما هو ذو أصل وثَني ، كالصرعات التي تظهر بين الحين والآخر، في اليابان وغيرها ! ولا يغيب عن الذهن ، ما فعله الرجل الهندي المدعو: ( المَهاريشي ) في أوروبّا ، في أواسط القرن العشرين المنصرم..! إذ أسّس عقيدة غريبة، اعتنقها الآلاف من أتباع المِلل المختلفة في أوروبّا ، ولاسيّما من شباب النصارى الضائعين ، الذين لا يكترثون بديانتهم النصرانية ، ويشعرون بالحاجة إلى دين يؤمنون به ، لإرواء غريزة الإيمان في نفوسهم ، حتى لو كان هذا الدين مخترَعاً من أساسه ، ليس له أصل ربّاني ..!

وصدق رسول الله ( ص) : كل مولود يولَد على الفطرة ، فأبواه يهوّدانِه ، أو يمجّسانِه ، أو ينصّرانه !

( أدبيات سياسية )                ( المقالة الرابعة )

                                    حِلم.. وجَهْـل

وردَ في الأثر، أن النابغة الجعدي ، قال قصيدة بين يدي النبيّ (ص) ، فيها هذان البيتان :

ولا خَيرَ في حِلمٍ إذا لمْ يكنْ له               بَوادِرُ تَحْميْ صَـفْـوَه أنْ يُـكَـدَّرا

ولا خَيرَ في جَهلٍ إذا لمْ يكنْ له              حَـليمٌ إذا ما أوردَ الأمْـرَ أصْـدَرا

فقال له النييّ (ص) ، حين سَمع هذين البيتين : (لا فُـضَّ فوك!) إعجاباً بهما ، واستحساناً لمعناهما. وقيل إنه عاش أكثر من مئة عام ، ولم تسقط له سنّ واحدة ..!

 هل يحتاج هذان البيتان إلى تفسير !؟ ربّما.. مع أن معناهما واضح كالشمس ! إن معناهما متغلغل في حياتنا كلها، في سائر فروعها وتفصيلاتها ( السياسية والاجتماعية والخلُـقية..!).

أ – الحلم الزائد لدى شخص أو قبيلة أو دولة .. يُجرّئ السفهاء ، على مَن يتحلّى بهذا الحلم الزائد ، فيتطاول مَن يتطاول ، ويتَحامَق مَن يتحامق ، ويعتدي من يعتدي .. ! ويظلّ الحليم متمّسكاً بحِلمه ، لايدفع عن نفسه أذى الآخرين ..! فهل يظلّ هذا الحِلم حِلماً ـ والحال هذه ـ أم يَتحول إلى شيء آخر، ويفقد قيمته السامية .. كأنْ يسمّى مثلاً: (جبناً) أو (هَواناً) أو أيّة تسمية أخرى تناسبه..!؟

ونحسب معنى البَوادِر هنا صار واضحاً .. إنها الأفعال التي تَدفع الأذى عن الحليم ، كيلا يتحول إلى جبان ، وعن الحلم ، كيلا يتحول إلى جبن ، أو هَوان ..!

 وإذا كان هذا المعنى على المستوى الفردي والقبَـلي ، أظْهَـرَ منه على المستوى السياسي ـ إذ ليس ثمّة فرد لايعرف دلالته في حياته اليومية ، وليس ثمّة قبيلة لاتعرف كنهه في تعاملها مع القبائل المحيطة بها ـ فإنه على المستوى السياسي ، لاسيّما في تعامل الدول فيما بينها ، ليس على هذه الدرجة من الوضوح ..! ذلك أن قيمته الخلقية تتحول ، في التعامل السياسي ، إلى قيمة سياسية ، تَستمدّ وزنها وحجمها من تزاوج القوّة والمصلحة ، في إطار النسيج المعقّد لتشابك القوى والمصالح ، في ساحات العمل السياسي الداخلية والخارجية..!

والنتيجة واحدة في المحصّلة النهائية ! هناك خطأ في فهم (الحِلم) وعدم استعمال الوسيلة التي تحميه وتحمي صاحبه .. وهنا خطأ في فهم (الواقعية السياسية !) ، وعدم إعداد القوّة المناسبة، لحماية المصلحة العليا للدولة..!

ب – الجهل الوارد في بيت الشعر الثاني: هو التحدّي والنزوع إلى العدوان ..

    قال عمرو بن كلثوم التغلبي ، في قصيدته المشهورة (المعلّقة) ، يتحدّى عمرو بن هند ، ملك الحيرة ، في القصة المعروفة ، التي أرادت فيها أمُّ الملك إهانة أمِّ الشاعر، فغضبَ الشاعر فقتَل الملك :  ألا لا يَجْهلَنْ أحَدٌ علينا           فنَجْهلَ فوقَ جَهلِ الجاهلينا

 فالجهل ، بهذا المعنى ، مطلوب في حدود الحاجة التي تقتضيه. فإذا زاد عن حَدّه وجَب أن تَتصدّى له قوّة الحِلم ، لتكبح جِماحَه ، وتكفكف من غلوائه.. وإلاّ دمّرَ نفسَه وصاحبَه ، ومَن حولَه مِن أهل الحلم ، والمجتمعَ كلّه..!

ت _ عنصر الضبط والموازنة : لابدّ من قوّة تشكّل عنصر ضبط وموازنة ، بين العنصرين الحلم والجهل. والمكان الذي تَغيب عنه هذه القوّة ، يحكمه قانون الغاب ..! إذ يطغى الجهل، ويتمادى في طغيانه ، حتى يجرّ الحلم وأهله ، إلى ساحة الطغيان والتمادي والعدوان ، ويُهلك الحرث والنسل ، في دوّامة التداعيات التي يثيرها الفعل وردّ الفعل..!

 وإذا كان الأفراد في القبيلة يحكمهم قانون القبيلة ، والقبائل في الدولة يحكمها قانون الدولة .. فإن الدول في العصر الحاضر، تحكمها قوانين دولية ، تنظّم العلاقات فيما بينها..

 ولمّا كانت القوانين الدولية الحالية ، صادرة عن مؤسسات دولية ، صنعتها الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية ، لتنظّم في إطارها علاقات القوّة .. كان لابدّ لهذه القوّة من أن تُطلَّ برأسها ، بين حين وآخر، من هذا الطرف الدولي القويّ أو ذاك ، تجاه بعض الأطراف الصغيرة.. فتتصدّى الدول القوية الأخرى ، داخل المؤسّسة ، لحماية الطرف الضعيف ، دفاعاً عن مصالحها ، في هذه البقعة من العالم ، أو تلك..!

 فإذا حَصل التجاوز دون تَصدّ له يَردعه ، حَصلت الفوضى الدولية..! وهذا مانشهد بداياته اليوم في العالم ..!

 لكن .. هل الفوضى عالمية شاملة !؟ لا.. إنها خاصّة بالدول الضعيفة ، التي لم يبق في العالم توازن قوى يحميها..! ومن هذه الدول ماهو موجود في عالمنا العربي والإسلامي ، من دول ودويلات..!

 وأقسى مايفرضه على بلادنا اختلالُ ميزان القوى العالمي ، في سياق بيتي الشعر المتقدّم ذِكرهما، هو محاصرة حلمائنا وجهلائنا معاً ، وفي الوقت ذاته :

الجهلاء يحارَبون بحجّة مكافحة الإرهاب ( وبعضُهم يعطي الحجة على نفسه، لأنه يتمادى في عدوانه ، حتى على أبناء مجتمعه وملّته ، بذريعة محاربة الفساد والطغيان في بلاده ، فيسيء أكثر ممّا يُحسن ، ويَضرب الصالح والطالح ، ويَهدم الكثير دون أن يبني شيئاً، لأنه نَدب نفسه للهدم لا للبناء ..! فيَستنفر ضدّه أبناءَ مجتمعه ، ليكونوا عوناً للقوى الدولية ضدّه ، مادام لايفرّق في عدوانه ، بين أبناء ملّته ومجتمعه ، وبين أعداء أمته، ويضعهم ـ في اجتهاد ساذج ـ في دائرة واحدة..! وإذا كانت حماسة الشباب ، هي الروح التي لاتستغني عنها أيّة أمّة ، فإن الحماقة ـ في جيل الشباب أيضاً ـ أحد معاول الهدم الفتّاكة ، التي تدمّر كيان الأمّة ، قبل أن يدمرها أعداؤها..! فهل فكّر شباب الأمة وعلماؤها ومربّوها وساستها .. بضرورة الفصل بين الحماسة والحماقة..!؟ وهل أدرك  شباب الأمّة المتحمّسون ، الذين لايشكّ أحد في إخلاصهم ـ إذ ليس ثمّة عاقل ، يشكّ في إخلاص شابّ يفجّر نفسه بحزام ناسف ، خدمة لقضيته التي يؤمن بها، أيّاً كان دينه أومذهبه ـ هل أدركوا ، أو سيدركون ، أن الحماسة والإخلاص لقضية ما، لايجعلان الاجتهاد الفاسد ، فيها أو في غيرها ، صالحاً.. ولا يلغيان حقّ المتضررين بهذا الاجتهاد، في مقاضاة مَن سبّبَ لهم الضرر،في الدنيا والآخرة..بل وفي مناصبته العداء ، حتى لوتصوّر نفسه ـ باجتهاده هذا ـ منقِذاً لهم من ضيم خارجي أو داخلي..!؟). الحلماء يحارَبون بحجّة انتمائهم إلى العقيدة التي ينتمي إليها الجهلاء ، وبحجّة الظنّ بأن بعض هؤلاء ، يساعدون بعض أولئك ، مالياً أو إعلامياً .. وربّما بحجّة تعاطفهم معهم وجدانيا..!( وغنيّ عن البيان ، أن الحلماء الذين يشكّلون عنصرالوسطية والتوازن في مجتمعاتنا ، هم صِمام الأمان وعنصر الاستقرار في هذه المجتمعات ، وعنصر الامتصاص والاستيعاب الأول ـ وربّما الوحيد ـ لسائر نزعات التطرّف والجهل، والاجتهاد المسطّح في التعامل مع الأفكار والناس..!). ولو انسحب الحلماء ، أصحابُ مدرسة التوازن والوسطية ، من ساحة العمل العام، لاستقطب الجهلاء ، أتباعُ مدرسة العنف والتطرّف ، سائرَ شباب الأمّة ، واستثاروهم بسائر عناصر الإثارة الموجودة على الساحة ، وأبرزها تحدّي العدوان الخارجي، والتصدّي للفساد الداخلي ، في إطار نزعة جامحة للهدم ـ والهدم وحدَه ـ إذ ليس لهذه الفرق التي تنزع إلى العنف ، مشروع واحد للبناء ..! وهي لاتؤمن أصلاً ، ببناء المجتمعات القائمة ، أو البناء فيها ، لأنها فاسدة ..! والبناء في الفساد وعلى الفساد ، إنّما هو إضاعة للوقت الذهبي المخصّص للهدم ، من وجهة نظرها..! فسبحان الله ! هل كان النابغة الجَعْدي ، ببيتيه المذكورين آنفاً ، يَستشرف مانحن فيه اليوم من (فِتَن يصبح الحليمُ فيها حَيران ) كما ورد في الحديث الشريف..! أم هي حكمة شاعر ، تشمل كل مايندرج في مضمونها من حالات ، على امتداد الزمان والمكان ..!؟

  22/9/2006     

أدبيات سياسية:           ( المقالة الخامسة )

                   أمثال للعزّة .. وأمثال للذلّة.

 أ ـ المثل ضمير ثانٍ ، كامن في الضمير، يتنبّه في الموقف الذي يقتضيه ، ويَبرق في الذاكرة ، ثمّ يسري برقه في الكيان كله..! فإن كان صالحاً ، قاد إلى صلاح ، أو ثَـبّت القلب على صلاح ، وإن كان فاسداً، قاد إلى فساد ، أو ثَـبّت النفس على فساد .

 وليس في الكون شعب يخلو من أمثال ، وليس في الناس عاقل يخلو لبّه من أمثال ، حسنة وسيّـئة.

 والمثل قد يكون حكمة ، أو قولاً مأثوراً ، أو جملة تَحمل تجربةَ شَعب أو أمّة ، قالها فرد ، في ظرف ما ، ثمّ شحنتها الأمّة بمشاعرها، عبر التداول الطويل..!

 وكثيراً ما ينتقل المثل ، من دولة إلى أخرى ، ومن أمّة إلى أخرى، فيكتسب أبعاداً إنسانية ، ويصير مثلاً إنسانياً عاماً .

  نماذج من أمثال الجرأة والعزّة ، وأخرى من أمثال الجبن والذِلّة :

من أمثال الجرأة والعزّة : في مجابهة الأعداء : المَنيّة ولا الدنيّة .. استقبال الموت خير من استدباره. في مجابهة الحاكم الظالم :

  قال عمرو بن كلثوم التغلبي ، في معلقته المعروفة :

  إذا ما المَـلْـكُ سامَ الناسَ خَسْـفاً    أبَـينا أنْ نُقِرّ الذلَّ فينا

وقال بشّار بن برد:

إذا المَـلِكُ الجبّار صَعَّر خدَّه    مشَينا إليه بالسيوف نعاتبهْ

من أمثال الجبن والذِلّة : في مجابهة الأعداء : العَين ما تقابل مخرزاً .. الهزيمة ثلثا المَرجلة..! في مجابهة الحاكم الظالم :

 قال الطغرائي ، في قصيدته المعروفة ، المسمّاة لاميّة العَجم:

جانبِْ السلطانَ ، واحذَرْ بَطشَه      لا تعانِدْ مَنْ إذا قال فَعلْ

ب ـ ولا يخفى على القارئ المسلم ، أن أمثال العزّة منسجمة مع روح الإسلام ، والتوجيهات الأخلاقية النبوية للمسلمين ، حتى لو ولِدت هذه الأمثال ، في مجتمعات غير مسلمة ، أو كان قائلوها غير مسلمين . فسيرة النبي (ص) وصَحبِه الكرام ، حافلة بمعاني العِزّة،على مستوى الأقوال والمواقف :

قال رسول الله (ص) في مجابهة الأمّة للحاكم الظالم : إذا هابت أمّتي أن تقول للظالم : يا ظالم ، فقد توُدّعَ منها . وقال (ص) : سيّد الشهداء حمزة ، ورجل قام إلى إمام جائر، فأمرَه ونَهاه ، فقتلَه .

 وفي سيرة الخليفة الراشد ، عمر بن الخطاب ، أنه قال : إذا رأيتم فيّ اعوجاجاً فقوّموه . فقال رجل : لو وَجدنا فيك اعوجاجاً لقوّمناه بسيوفنا . فقال عمر : الحمد لله الذي جعل في أمّة محمّد ، مَن يقوّم عمر بسيفه .

 وقال القائد العبقري الفذّ، خالد بن الوليد ، في مرض موته، يَعيب جبنَ الجبناء، وخوفَهم من مجابهة أعدائهم : ... ليس في جسمي موضع شِبر، إلاّ فيه رمية بسهم ، أو طعنة برمح ، أو ضربة بسيف، وهاأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء!

                      21/12/2006/    عبدالله عيسى السلامة

( أدبيات سياسية )   ( المقالة السادسة )

           الظلم : الشِيمة.. والعِفّة.. والعِلّة

قال المتنبّي :

    والظلمُ مِن شِيَم النفوسِ ، فإنْ تَجِدْ                ذا عِفّة ، فَـلِعلّةٍ لا يَظلِمُ

احتجّ بعض الباحثين على المتنبّي ، لجعله الظلمَ شيمةً لازمة من شِيَم النفس البشرية ـ أي طبيعة من طبائعها ـ .. ورأوه قد ظَلم النوع الإنساني كلّه ، بإلصاق هذه التهمة به..! فقد جعلَ الظلم هو القاعدة ، وجعلَ العِفّة عنه ، استثناء لايحصل إلا لسبَب ( علّة ) يقتضي وجوده ..!

  ولِما لهذا الموضوع من صِبغَة فلسفية ذات أبعاد شتّى ( نفسية.. اجتماعية .. خلقية .. تربوية ).. كان لابدّ من وقفة قصيرة عنده ، لأهميته للنوع الإنساني كله..!

أ‌-     الظلم أنواع ، منها :

الظلم الأعظم : وهو الشرك بالله .قال تعالى على لسان لقمان: (  يابنَيّ لا تُشركْ بالله إنّ الشِركَ لَظلمٌ عَظيم ). سورة لقمان / آية 13/ . ففي هذا الظلم اعتداء على أعظم حقيقة في الوجود ، وهي وحدانية الله سبحانه وتعالى ، التي بعث الأنبياء والرسل جميعاً، لتأكيدها في حياة الناس ، وترسيخها في عقولهم وقلوبهم . والقرآن الكريم حافل بالآيات التي تدلّ على هذا المعنى ، بأشكال متعدّدة ..! ظلم الإنسان لنفسه : وهو متعدّد الصور والوسائل والأساليب..! ظلم الإنسان لأخيه الإنسان : وهو كذلك متعدد الصور والأساليب والوسائل..! ظلم الإنسان لمخلوقات الله الأخرى من غير النوع الإنساني : كالحيون بأصنافه وأجناسه ، وعناصر البيئة : من نبات وماء وهواء وتراب..!

ب‌-الظلم بأنواعه المذكورة آنفاً ، موجود في الحياة البشرية ،على امتداد الزمان والمكان، وهو مَظهر من أبرز مظاهرهذه الحياة ، ومَعلَم من أجلى معالمها ، تؤكّد ذلك رسالات السماء ، وحقائق الأرض المحسوسة ، التي يراها الإنسان ويسمعها ، أينما كان في عالم البشر..!

ت‌- أكثر الناس يمارسون الظلم بطريقة ما ، بنوع واحد من أنواعه ، أو اثنين ، أو أكثر من ذلك. وقد قال عزّ وجلّ ، في كتابه الكريم : ( وما أكثرُ الناسِ ولوْ حَرَصْتَ بمؤمنين) سورة يوسف /آية 103/. ومعلوم أن عدم الإيمان – أي الكفر – إنما هو ظلم من أسوأ الأنواع ! وقد وُصف به أكثر الناس.

ث‌- قال تعالى : (وإنّ كثيراً مِن الخُلَطاءِ لَيَبغيْ بَعضُهمْ على بَعضٍ إلاّ الذينَ آمَنوا وعَمِلوا الصالحات ). سورة ص / آية 24/. ومعلوم أن البغيَ ظلم.

ج‌-  ومن يستعرض أنواع الظلم التي يراها في حياته اليومية ( ظلم الأفراد للأفراد ، وظلم الحكّام لمواطنيهم ، وظلم الدول للدول) لابدّ له أن يتساءل: هل  الظلم حالة طارئة على حياة الناس ، أم هو أصل ثابت مستقرّ من أصول هذه الحياة!؟ وإذا كان أصلاً ثابتاً ، فهل هو طبيعة من طبائع النفس البشرية ، كما زعم المتنبي ، أم استعداد كامن في هذه النفس ، يَظهر في أكثر صور الحياة ، وتمارسه أكثرية أفراد النوع الإنساني !؟ إن سورة العصر تؤكّد خسارة الإنسان عامّة ، وتستثني فئة منه: ( والعَصرِ. إنّ الإنسانَ لَفيْ خُسْرٍ . إلاّ الذين آمَنوا وعَملوا الصالحاتِ وتَواصَوا بالحَقّ وتواصَوا بالصَبْرِ). ومعلوم أن الخسر لايكون ، إلاّ نتيجة لظلم يمارسه الإنسان نفسُه، فالله لايظلم أحداً.

ح‌-  وعند العودة إلى الآية الكريمة ، نرى بوضوح ، أن الظلم ليس جبلّة جبِل عليها الإنسان لافِكاكَ له منها ، بل هو استعداد كامن في النفس لممارسة الظلم ، كالاستعداد الكامن لممارسة العدل والخير . قال تعالى : ( إنّا هَدَيناهُ السبيلَ إمّا شاكراً وإمّا كَفوراً).سورة الإنسان / آية 3/.

خ‌-  وبناءً على ماتقدّم ، ندرك أن الظلم ليس حكْماً ربّانياً حكَم الله به على الإنسان ، ولا قَدَراً لازماً قدّره عليه..! بل هو حالة إنسانية ، يمارسها الإنسان على نفسه ، وعلى أفراد نوعه ، بطَوعه واختياره .. ويَـقبلها الآخرون أو يرفضونها ، بطوعهم واختيارهم . فلا عذْرَ لمن يمارسها ، ولاعذرَ لمن يَـقبلها.. ( والمضطرّ إلى السكوت على الظلم ، وهو كاره له ، يعذربحسَب ضرورته).

د‌-    وهنا نقف عند حالتين من حالات الظلم الشائعة اليوم :

ظلم الحاكم لشعبه : وهو حالة من الظلم المزدوج: الحاكم ظالم ، وعليه أن يدفع ضريبة ظلمه ، والشعب المظلوم ظالم ، لأنه قبل الظلم ، وعليه أن يدفع ضريبة ظلمه.( في الحديث الشريف: إذا هابت أمتي أن تقول للظالم : ياظالم .. فقد تُودِّع منها..). وفي الحديث الشريف أيضا ( سيّد الشهداء حمزة ، ورجل قام إلى إمام جائر، فامَره ونَهاه ، فقتله ). ظلم الدولة للدولة : والظلم هنا ثلاثيّ الأبعاد : الظالم الأول فيه الدولة التي تمارسه. والظالم الثاني هو الحاكم الذي يقصّر في تقوية دولته ، حتى يستضعفها الآخرون فيعتدوا عليها . والظالم الثالث هو الشعب الذي يقبل من حاكمه التقصير في تقوية الدولة وحمايتها ، حتى يستبيحها أعداؤها ، وينكّلوا بشعبها ، وينهبوا ثرواته..!

ذ‌-    وهنا نصل إلى العفّة وعلّتها ، لنكتـشف أن العلّة التي تَمنع من الظلم ، أو تَردع عنه، أنواع، منها:

-       الخوف من الله عزّ وجلّ : وهذه أسماها وأكرمها.

-       الأخلاق والمروءات التي يربّى عليها الفرد : وهذه تأتي بالدرجة الثانية ، من حيث الرفعة والسموّ.

-       العجز عن ممارسة الظلم ، إذا كان العاجز راغباً فيه . وهذه حالة سلبية لا فضلَ للعاجز فيها ، وإن تَظاهَر بالعفّة !

-       القوّة الرادعة : وهي التي تمنع المرء من الظلم وتردعه عنه ، سواء أكانت قوّة قانونية ، أم قوّة واقعية ( عسكرية .. ونحوها). وهذه القوّة تَحديداً ، هي التي تكشف حقيقة الديموقراطية بوضوح وجلاء ـ في الدول التي تدّعيها ـ ..! فالحاكم في الدول الديموقراطية ، لايمنعه من الاستبداد والتجاوز على الحقوق العامّة والخاصّة في دولته، إلا القوّة الرادعة التي  ترصده وتتربّص به ( قوّة القانون.. قوّة الخصوم السياسيين.. قوّة وسائل الإعلام التي تَفضح المُخالف ، وتُشهّر به ، وتسقطه..). ولعلّ الديموقراطي الحقيقي الوحيد ، هو الذي يَجد مَن يَتصدّى له ، ويردعه عن التجاوز..! لايقول له : لا .. ثم يصمت . بل يقنِعه بحزم ، بأن كلفة التجاوز أكبر بكثير من مكاسبه ..!

                                   22/9/2006         عبدالله عيسى السلامة

      

   أدبيات سياسية :   ( المقالة السابعة )

                    الأسد .. والغنَم.. والراعي النائم !

قال الشاعر:

 ومَن رعَى غنَماً في أرضِ مَسبَعةٍ    ونام عنها ، تَولّى رعيَها الأسَد

أ ـ أصناف الأغنام شتّى ، ولكل منها ما يناسبه من الرعاة ، وما يتربّص به من الأسود أو الذئاب . وفي الحديث : كلّكم راع ، وكلّكم مسؤول عن رعيته.

رَبّ  الأسرة : غَنمه هي أسرته ، التي يحمل أمانةَ رعايتها، والمحافظة عليها ، والدفاع عنها . سيّد القبيلة أو العشيرة ، قبيلته أو عشيرته ، هي غنمه المؤتمن عليها. قائد  الحزب ، غنمه هي حزبه. حاكم الدولة : غَنمه مواطنو دولته. ودونَه الوزير في وزارته، والمحافظ في محافظته ، والمدير في إدارته..

ب ـ النوم نوعان : حقيقي ومجازي ، وكلاهما مشمولان ببيت الشعر المذكور آنفاً. إلا أن المجازي أكثر تنوّعاً . ومن أنواعه : الغفلة، والانشغال ، والإهمال ..

ج ـ مايعنينا هنا هو نوم  السياسي عمّن يَسوس : أيْ : نوم الحاكم ومَن دونَه ، ممّن يتولّون شؤون الأمّة ومؤسّساتها ، وأولئك الذين يتولّون شؤون الجماعات والتجمّعات .. داخل الدولة .

د ـ من أنواع نوم الحاكم ، ومَن دونَه ممّن هم في حكمِه ـ إضافة إلى أنواع النوم الآنف ذكرها ، الحقيقي منها والمجازي ـ : الثقة الزائدة بالمرؤوسين الذين تحت يد  الحاكم ، من موظفين مدنيين وعسكريين وأمنيين .. وتسليمهم مقاليدَ الأمور، ليسوسوا الناس بأمرهم لا بأمر الحاكم ، ووفق اجنهادهم لاوفق اجتهاده ! ولعل هذا أخطر أنواع النوم ! ( والفرق واضح ، بالطبع ، بين التفويض المنضبط بصلاحيات معيّنة ، محدّدة بزمن ، وبين التسليم التامّ للصلاحيات ، والثقة التامّة بالمرؤوسين ، وعدم متابعة أعمالهم، ومحاسبتهم على ما يبدر منهم ، من فساد ، أو ظلم ، أو تقصير، أو تفريط بحقّ الرعية ..!).

                    21/12/2006 

 أدبيات سياسية :  المقالة الثامنة :

               إلاّ الأذلاّن ..!

قال الشاعر :

      ولا يـقيم على ضَـيم يـُراد به                  إلاّ الأذلاّن : عَـيْـر الحيّ والوتـد

     هذا على الخَسف مربوط برمـّته                  وذا يـُشَجّ .. فلا يَـرثي لـه أحَـد

هل هذا هو حال الشعب السوري ، الرازح تحت نير الاستبداد البشع ، منذ ما يزيد على أربعين عاماً !؟ ربّما ..!

لكن ثمّة أسئلة ، لابدّ من طرحها ، قبل الإجابة ب (نعم) .. أو (لا) !

هل أجري استفتاء ، شمل شريحة واسعة من أبناء الشعب السوري ، حول نوع الإحساس، الذي يحسّ به المواطن السوري ، تحت حكم الزمرة الحاكمة، ومن سبقَها، أم أن لسان الحال أبلغ من لسان المقال .. وأن النهار لايحتاج إلى دليل ، كما قال الشاعر:

وليس يَصحّ في الأذهان شيء       إذا احتاج النهار إلى دليلِ

إذاكان قد أجري استفتاء ، حول هذا الأمر، فهل تبيّن أن إحساسات الساسة ، والمثقّفين، والعلماء ، والمفكّرين ، والأدباء ، وأصحاب الرأي.. مماثلة لإحساسات الناس البسطاء العاديين ، الذي لايهتمّون بغير أمور حياتهم اليومية ، من طعام ، وشراب ، وكساء ، ودواء ، ومسكن .. أم هي مختلفة عنها ، بحكم طبائع الأشياء !؟ إذا لم يكن قد أجري أيّ استفتاء ، لأن السلطات الحاكمة ، تَمنع هذا ، بل تحرّمه ..إلاّ أن يتمّ بإشرافها وتوجيهها ، وبما يخدم مصلحتها .. وإذا تبيّن أن لسان الحال أبلغ من لسان المقال ، وأن مأساة المواطن السوري ، أوضَح من أن تخفى على بصير .. إذا كان ذلك كذلك ، فإن الأمر يستدعي أسئلة أخرى ، من نوع مختلف .. من أهمّها :

ـ مانصيب المواطن العادي ، من المسؤولية ،عمّا هو فيه ، من ضيم وقهر واضطهاد !؟ وما نصيب المثقّف ، والمفكّر ، والسياسي ، والعالم ، والأديب .. من هذه المسؤولية !؟

ـ  وإذا كانت النخَب المثقّفة ، تعطي نفسَها حقّ القيادة والريادة ، للجماهير البسيطة.. فما حقّ هذه الجماهير، على هذه النخب ، من حيث اتّصافها بصفات القادة ، المؤهّلين للقيادة ، واكتساب ثقة الجماهير!؟ (وصفات القادة المؤهّلين لقيادة الشعوب ، معروفة نظرياً ، في الكتب والدراسات ، والبحوث المخصّصة لها .. وفي الممارسات العملية ! ولو كان كل مَن تصدّى لقيادة الناس ، مؤهّلا بالضرورة ، أو بالادّعاء .. لكانت أسرة أسد وزبانيتها، أولى الناس بقيادة الشعب السوري ، ولا يحتاج الناس إلى أن يستبدلوا بها قوماً آخرين!).

وسوم: العدد 701