ظاهرة الفكر التكفيري..!
الحوار المتمدن-العدد
في العقود القليلة الماضية، وعلى تخوم القرنين العشرين والحادي والعشرين، شهد العالم نشاطا غير مسبوق من قبل الحركات الأصولية الإسلامية المتشددة، ونشاطهم المحموم في إشاعة الفكر التكفيري، وقد نجحت الحركة في استقطاب من هم في سنّ الشباب خاصة لهذا الفكر، وبالتالي تجنيدهم في جماعات لمواجهة حالات التنوير والعلمانية في العالم الإسلامي ومنها منطقة الشرق الأوسط، كل ذلك ألقى بظلال قاتمة على الرؤية الإسلامية المعاصرة، فتحولت الحركة الأصولية أخيرا إلى منتج ومصدر للإرهاب، وعقدة مستعصية لبعض الدول والشعوب في كيفية التعامل معها وبالتالي مواجهتها، والحقيقة أن هؤلاء أصحاب الفكر التكفيري شوّهوا صورة الإسلام، وجاء الرد من الغرب لاسيما من أمريكا حيث عدّ الفكر التكفيري الإسلامي يشكل خطرا عالميا، فينبغي إذن مواجهته عالميا.
السؤال الذي لا بد أن نقف عنده هو، من أي مكمن يستمد هذا الفكر التكفيري مدّه؟، وما هي حجج التكفيريين وكيفية قدراتهم لإقناع الناس بهذا الفكر وتجنيدهم بالتالي للقيام بعمليات إرهابية واقتناع هؤلاء بتلك الأهداف في عملياتهم؟، ولماذا استوطنت هذه الجماعة بين أهل السنة أكثر؟، وهل في القرآن الكريم ما يؤيد ارتكاباتهم؟، ومن جعلهم خلائف الله في الأرض وما هي الجهة التي تمدهم بالمال والسلاح..؟ أسئلة كثيرة تطرح.. ويبقى التصدي لهكذا أسئلة محفوفا بكثير من الحذر والإحراج وربما المخاطر.
مما لا شك فيه أن الديانات السماوية عموما والعقائد خاصة، تسعى بين حين وآخر إلى تطهير نفسها مما تعلقت بها من شعوذات وأضغاث، وما تسرب إليها من أفكار وثنية وأساطير وشرائع عقائدية ورؤى تكفيرية، كل هذا كان لها حضورها وأسبابها قبل بزوغ فجر الإسلام، واليوم كان من المفترض على هؤلاء أن يتماهوا بالتنوير والعلمانية ويتواصلوا مع الحضارة الجديدة والثورة التكنولوجية، لا أن يبشروا بالفكر التكفيري من جديد ويعيدونا إلى الوراء قرونا، كان عليهم أن يكرّسوا في إسلام اليوم جانب السماحة، والنضال بالموعظة الحسنة لا بالسيف.
علينا أن نقر بأن الفكر التكفيري له سابقة في الإسلام، فإن لم يكن له وجود أو سند عند المسلمين الأوائل، فقد ظهر وشاع بعد حرب صفين على أيدي الخوارج ومن نسجهم، وفيما بعد عند فرقة الأباضية التي بقيت محصورة في بعض القبائل العربية معزولة في مناطق من عمان، ويقول السيوطي إن الهادي الخليفة العباسي قد قتل خمسة آلاف فيلسوف في بغداد وحدها بدعوى التكفير ومن أجل اقتلاع ما سمي بالعلوم العقلية، فتخيل هذا العداء السافر للفكر الحر النشط في المركز بدار الخلافة عند الأسلاف، لأدركنا أسباب هذا النشاط التكفيري لدى الأخلاف اليوم، وفي هذا السياق نجد أن التكفير كان ظاهرة واضحة عند بعض طوائف الشيعة الذين نادوا بأحقية الإمام علي في الولاية ومن يعترض عليها يعد كافرا، فهل هؤلاء اليوم جاؤوا ليؤسسوا لمثل هذا الفكر التكفيري ظنا منهم أنهم يخدمون الدين الحنيف، فضلا عن إثارتهم لمسائل حساسة عن الديانتين اليهودية والنصرانية وقذفهما بالكفر، فقد نقل السيد القمني عن أحد هؤلاء التكفيريين قوله :(إن سورة المائدة من السور التي تناقش اليهود والنصارى وتلزمهم ضرورة الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم الذي جاء بالهدى وصدّق المرسلين، ولكن أهل الكتاب حرّفوا وبدّلوا وطمسوا البشارات فكانوا أحق الناس بالكفر).
أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 تظلّ علامة فارقة في مسيرة جماعات الفكر التكفيري، ولا يفوتنا القول من أنه، لا يمكن الفصل بين البنلادنية وحركة (الإخوان المسلمون) فالبنلادنية هي الوريث الشرعي للإخوان، وأيضا لشيوخ الدين أولئك الذين يلهبون المساجد بخطب نارية بغاية التعبئة والتهيئة النفسية لدى جيل الشباب الغض الغرير خاصة، هؤلاء ضد النهج الديمقراطي في إدارة الحكومات، فيعدون الديمقراطية بدعة، كما هم ضد الشكل البرلماني في التمثيل، فالحاكمية لله وحده وهم خلائف الله في الأرض، وبالتالي هم مخوّلون للحكم بما أنزله تعالى وبما شرّعت به سنة رسوله، دون أن يكون بمقدورهم رسم مشروع سياسي، أو برنامج في كيفية إدارة الحكم، أو النهوض بالبلاد تنمويا، وما هي قراءاتهم للنصوص القرآنية وبالتالي تفسيرهم للآيات المختلف على دلالاتها ومقاصدها.
يرى ابن لادن أن نشر الدين في الديار الإسلامية، وتأسيس دولة الخلافة الإسلامية، يقتضي من المسلمين بداية مواجهة اليهود والصليبيين، ومن هنا جاءت شرعنة ثقافة العنف، كما لم يسلم من تهجمه حتى شيوخ الدين (المتقاعسين)، رغم أن العديد من علماء المسلمين وقفوا ضد الفكر التكفيري الذي شرعّه ابن لادن، ومنهم من رأى استحالة عودة الخلافة من جديد، ومن أن الإسلام لم يفرض شكلا معينا من الحكم السياسي، وهذا الأمر متروك لشعب البلد ليتخير شكل إدارة شؤون البلاد والعباد.
ثمة عامل آخر لتهيئة النفوس وبالتالي شحنها بالإرهاب وهو المناهج الدراسية في بعض الدول، فمنها ما تكفر بعض التيارات الإسلامية، ومعظم هذه الجماعات يتم تمويلها غالبا من دول الخليج، وكانت ثمة جمعيات خيرية تمدّ هذه الجماعات بالمال، وكانت هي بالذات مع التوجهات التكفيرية، وبحجة الجهاد الإسلامي والدعوات التكفيرية، وجدنا لهم حضورا كثيفا في أفغانستان، بالمقابل لاحظنا كيف أن الولايات المتحدة الأمريكية مارست ضغوطات على بعض الدول سواء بشأن تحسين المناهج التعليمية، أو تجفيف منابع التمويل لتلك الجماعات التكفيرية، فكانت الاستجابة هي النظر في المناهج، والحظر على الجمعيات الخيرية لوقف عملها على الجوانب الخيرية فحسب، كما جرت لقاءات من خلال عقد ندوات حوارية بين الديانات السماوية الثلاث كون منطلقاتها إلهية مستقاة من مصدر واحد إذن.
يرى بعض الدارسين أن المدارس الدينية هي أهم بؤر نشر الفكر الديني المتشدد، لاسيما في السعودية وباكستان وأفغانستان، فجاء استثمار واستغلال هذه المدارس الدينية خلال الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي باعتبار هذه المدارس بيئة خصبة لإنبات الفكر الديني المتطرف لمواجهة مدّ الفكر الشيوعي الكافر، بتمويل سخي من الولايات المتحدة والسعودية ومن دول أخرى لاسيما الدول الخليجية، فبدلا من أن يبرز هؤلاء الجانب المتسامح في الإسلام، حاولوا إبراز الجانب الفكري الأحادي من الدين، فكل طرف يلجأ للاستشهاد بسور من القرآن كقرائن قوية لما يقومون به، وهنا السياسة لا السماحة الدينية هي التي تأخذ طريقها في التعليل أو اختيار ما يؤيد نزعاته التكفيرية المتشددة، أي يقومون بتفسير آيات من القرآن الكريم دون التدقيق في أسباب النزول، أو السماح في التأويل عندما يخالف نزعاتهم وبالتالي إعطاؤها تفسيرات أحادية الجانب، ويمكنهم رصد الجوانب المخالفة في سلوك الآخرين حسب رؤيتهم الدينية، وقراءتهم للنصوص القرآنية، وهذا دأبهم على أيّ حال في تكفير الآخرين.
حقيقة إننا نقف حيارى إزاء مسائل عديدة يثيرها هؤلاء، هل نشفق على أمتنا من شعوذات هؤلاء ؟ ومباركتهم للتخلف المتأصل فينا، في سلسلة تواصل من السلف التكفيري إلى هؤلاء، أي إلى الخلف التكفيري (النجيب) فهؤلاء طمسوا الجانب النيّر المتسامح من الإسلام، فقد شوّهته ثوابتهم التي لا تقبل الجدل ولا القراءة العصرية، ولا تفسيرات الشرّاح والمجتهدين كعقوبة المرتد وهي القتل، وحظر النقد لما فيه من نظر واجتهاد، ورفض الثقافة المتقدمة والتكنولوجيا المتطورة التي أنتجت المطبعة والكهرباء والسيارة فالطيارة وأخيرا وليس آخرا الإنترنيت..! وهم يريدون أن يعودوا بنا إلى البادية بمطايا الإبل (سفينة الصحراء)، ويرون أننا بهذا التخلف ينبغي أن نسود العالم، عالم اليوم، وان الغرب سينهار مع حضارته المادية، وسيحكم الإسلام عموم العالم، ولا شراكة في الحكم من أحد سوى الدين الإسلامي بحاكمية هي لله وحده، وبالطبع هم الخلائف الحقيقيون والوارثون المؤهلون لإدارة شؤون البلاد والعباد.
وإذا كان غير المتابع منا لمسيرتهم قد يأخذه خطابهم المغلف بآيات من المصحف الشريف، فإن ممارساتهم المنفرة تكذّب دعواتهم، فضحايا هذا الفكر التكفيري بالآلاف من الأبرياء خاصة، وانظروا ما جرى في أفغانستان طوال حكم الطالبان، ولاحظوا ارتكاباتهم في باكستان والعراق، وقبلها في الولايات المتحدة وسواها من بقاع العالم، إنهم يريدون أن يعودوا بنا إلى القرون الوسطى..
إن الفكر السلفي التكفيري الذي يستغل الإسلام ليس له مستقبل أمام العلم والتكنولوجيا والعولمة والحداثة والحرية والديمقراطية، وسوف تذروها رياح التطوير والتغيير كما عصفت من قبل بدعوات وبرامج عديدة لم تلائم لغة العصر فتوارت واختفت.
وسوم: العدد 702