ابن حجر والمصحف الأحمر!
في إطار حفاوتي بفضيلة الشيخ ابن حجر البنعلي قاضي قضاة قطر عليه رحمات الله، قابلت ولده الأستاذ يوسف البنعلي الذي أنعش ذاكرة نفسه وذاكرتي بعدد من المواقف اللطيفة التي صدرت عن قاضٍ عالم فقيه ورع، لم يرَ حرجاً في أن يداعب أو يباغت من أمامه بطرفة مؤنسة، وقفشة مبهجة، ما فتح له قلوب عارفيه ومحبيه وطلابه، وكشف مدى تحريه وحرصه في التعامل مع من يمثلون أمامه، متهمين أو مدعين.
وكان رحمه الله لا يتردد في أن يستخدم دعاباته وذكاءه في المحكمة أحياناً في تثبيت تهمة ما أو نفيها، في مواقف تذكرنا بشريح وإياس القاضيين اللذين سأتكلم عن طرائفهما في مقالات لاحقة إن شاء الله، لكن تأمل معي قارئي الغالي هذه اللطائف القضائية:
= المصحف الأحمر:
جيء للشيخ ذات مرة بسارق جاهل ماكر، يروغ ويتهرب، رغم وضوح الأدلة ضده، وينكر التهمة التي ثبتت عليه من جهات، فأراد أن يستخرج منه اعترافاً بشكل لطيف، فقال له (واسمحوا لي أن أروى المواقف بعاميتي المصرية، فلا أحسن العامية القطرية):
- انت مصِرّ تنكر؟ طيب: أنا هاعرف أخليك تقول الحقيقة، يا فلان، هات المصحف علشان يحلف عليه، فأتى الكاتب له بمصحف من الحجم العادي المألوف، فقال الشيخ:
- لااااا، مش مع ده، هات المصحف الكبير الأحمر، دا لو حلف عليه كذب وقعته سودا!
فذهب الكاتب وأحضر مصحفاً من الحجم الجوامعي الكبير، ذا لون أحمر فاقع، فلما رآه أخونا السارق - ومن شأن العامة سليمي الفطرة توقير المصحف وتعظيمه – ارتعدت فرائصه، واضطرب، ورفض أن يحلف على المصحف (الأحمر الكبير) واعترف بالسرقة بتفاصيلها! ولعله ظن أن هذا مصحف مختلف، ذو خصائص فاضحة مدمرة!
= من تحت:
ومن طرائفه أنه انتقل ذات مرة إلى موقع حادث سرقة؛ للمعاينة والتدقيق، وجيء بمشتبه به، منكرٍ تماماً للسرقة، فأخذ الشيخ يتأمل الموقع، متظاهراً بالانشغال عن السارق، مدققاً في تفاصيل المكان، ثم سأل فجأة:
يا فلان: انت دخلت من أي شباك؟ اللي تحت، واللا اللي فوق؟
فقال اللص دون تفكير: دخلت من تحت!
وللشيخ رحمه الله حب للمشايخ، وتقدير لأهل العلم حتى لو اختلف معهم في المنهج والفتوى..
وكان له رأي عجيب في الشيخ القرضاوي - رغم أنهما من مدرستين مختلفتين - فقد سأله ابنه الأستاذ يوسف عن أفضل العلماء المعاصرين المؤثرين، فقال الشيخ: لا أرى الآن من هو أفضل من القرضاوي!
وذات مرة وقع أحد المشايخ من أقران الشيخ القرضاوي فيه، منتقداً منتقصاً، زاعماً أن القرضاوي كان تلميذه، فغضب الشيخ بشدة قائلاً بصراحة:
لا أسمح ولا أقبل أن يتكلم أحد عن القرضاوي في وجودي بسوء، وبفرض أنك كنت أستاذه، فكم من تلميذ فاق أستاذه، وهل أنت مثل القرضاوي الآن؟!
وفي أخريات أيامه، وكان مريضاً لا يكاد ينطق، جاءه أحد الناس يخبره بموت الشيخ الغزالي – عليهما رحمة الله – فذرفت عيناه تأثراً وحزناً، رغم أنهما كثيراً ما كانا يتلاسنان في مجلس الشيخ، ويشتد بينهما الخلاف، حتى تظن أن الغزالي سيخرج ولن يعود، وعند الانصراف كان الشيخ يقول:
لا تنسوا، العشا بعد بكرة، فيقول الغزالي: ودي حاجة تتنسي برضه؟ طبعاً هانيجي!
= صينية الهريس:
وكان الشيخ يدعو العلماء في رمضان في منزله، وكان من الحاضرين ذات رمضان الشيوخ: الغزالي، والقرضاوي، وعبد الباسط، والحصري وغيرهم، ويبدو أن الهريس أعجب المشايخ القراء (فأجهزوا عليه) وعند انصرافهم، قال الشيخ الحصري:
عمار يا شيخ، الله يجعله عامر، فرد الشيخ الظريف بسرعة:
منين هاييجي العمار، وانتم خليتم الصينية دمار؟!
= الحديث ذو قرون:
وبينما كان الشيخ جالساً مع بعض العلماء، استأذن أحد الناس في الدخول، فأخذ الشيخ يسأله وهو يعرض بضاعته من التيوس والغنم، والشيخ يكلمه، ويناقشه، فأراد الاعتذار للمشايخ عن انصرافه عنهم، وانشغاله مع الرجل الراعي، بعد أن فكروا في الانسحاب بلطف فقالوا:
خلاص نيجي بعدين، والحديث ذو شجون، فقال:
سامحوني طولت مع الراعي، الحديث معاه ذو قرون!
= مشعوذ كذاب:
وكان للشيخ كاتب مصري يعمل له منذ أوائل الخمسينيات، وكان الشيخ يحب أن يمازحه، فجيء له ذات يوم بمشعوذ نصاب، فحكم عليه الشيخ بالبعاد من قطر، فخرج الرجل غاضباً مهدداً، وقال: ترى يا شيخ أنا أقدر أحول الإنسان لحيوان!
فابتسم الشيخ وقال: زين والله، اخدمنا، وحوِّل لنا هالكاتب إلى فار، وريحنا، نِبِّي نفتك منه!
= يا قرد:
وجاءه أحد الخدم ذات يوم شاكياً، قائلاً: يا شيخ: الطباخ قال لي يا قرد، فابتسم وقال بسرعة:
انت تظن إن ربنا خلق الأشياء عبثاً، وبعدين انت زعلان ليه؟ دول بيعبدوا القرود في الهند!
= خارطة الحمام:
دُعي للغداء ذات مرة، ودخل الحمام الذي كان ضيقاً شديد الضيق، فتأخر متعمداً وأطال، فلما خرج سئل:
خير يا شيخ، طولت جوه الحمام؟! فقال:
بصراحة ضعت، ما دريت وين باب الحمام، المفروض تعملون له خارطة، علشان الناس ما يتوهوش داخل!
= خطه وحش:
ومن وجوه الشبه بين الإمامين ابن حجر العسقلاني وابن حجر البنعلي أن خط كل منهما (وِحش جداً) وكان الشيخ ابن حجر يسخر من خطه نفسه..
وذات مرة نادى كاتبه محمود الشربيني: يا محمود تعال بسرعة أقرأ لك اللي كتبته، لأني بعد عشر دقايق بالضبط مش هاعرف أقرأه!
= بيده أم برجله:
وجاءه رجل يعرض أن يعمل كاتباً لدى الشيخ، فطلب منه أن يكتب، فلما فعل دُهش الشيخ من رداءة خطه فسأله:
خاطري أعرف بس: انت كتبت هالكلام بيدك واللا برجلك؟!
= بقرة:
وذات مرة زار مجلسه رجل متعالم، وكشف عن جهل كبير، فامتعض بعض الجالسين، وقال: مش ممكن دا يكون من العلماء؟
فقال الشيخ بسرعة: إيه، دا يُجزق عن سبعة!
وسوم: العدد 702