مشكلة الجيل الثاني
يتكاثر المسلمون في بلاد الغرب. منهم من يذهب للدراسة الجامعية ثم تحلو له الإقامة، ومنهم من يهاجر هرباً من اضطهاد يلقاه في بلده الأصلي، ومنهم من يهاجر طمعاً في رفاهية العيش، ومنهم، ومنهم...
وهؤلاء جميعاً لم يكونوا، يوم هاجروا من بلدانهم، على مستوى واحد من الوعي، أو من التدين، أو من التمسك بقيم المجتمع وعاداته... لكن معظمهم رأوا بلاداً متطورة في مجالات الصناعة والاتصالات والطب وكثير من الخدمات، وكثير من أنظمة الحياة، ورأوا قدراً من الحرية أكبر، بما لا يقاس، مما كان متاحاً لهم في بلدانهم.
وهذه المفارقات وغيرها تصيب معظمهم بصدمة تجعلهم مبهورين بما يرون، وتجعلهم يُحِسُّون بالقماءة والصَّغار، وتجعلهم، بالتالي، مهيّئين لتقبل قيم المجتمع الجديد، وغض النظر عن مظاهر الانحراف والانحلال، وربما سوّغوا ذلك وارتضَوه.
جمعني قَدَرُ الله مرةً، في مقعدين متجاورين في الطائرة، مع أستاذ جامعي من بلاد الشام، يعيش في بريطانيا، ويحمل جنسيتها، لكنه ما يزال يحتفظ برصيد جيد من الانتماء إلى الإسلام، والحنين إلى الوطن الأول.
ودار بيننا حديث حول المغريات التي تجعل كثيراً من أبناء الشام وغيرهم، إذا أقاموا بضع سنوات في بلاد الغرب، يأبون العودة إلى بلادهم وإن لم يكونوا مطلوبين للأجهزة الأمنية. وبعد حوار وجدنا أن هناك ثلاثة مغريات وراء ذلك:
أولها: أن متوسط دخل الفرد في بلاد الغرب يهيّئ له مستوى من الرفاهية أعلى من مثيله في بلاد العرب. فالمهندس مثلاً يحصل على دخل (أو راتب) يمكّنه من شراء سلع وحاجات قد تعادل ضعفي ما يشتريه إذا كان يعيش في بلد عربي.
والثاني: البنية التحتية المتطورة. فمهما كان الدخل الفردي للمواطن العربي عالياً فلن يستطيع تطوير شبكات المواصلات في البلد أو يحسّن من الخدمات الطبية العامة...
وثالثها، ولعله الأهم: هو أن الفرد في الغرب يشعر بكرامته أكثر مما يشعر بها لو عاش في بلده. ففي معظم بلاد العرب يستطيع رجل الأمن، بل الشرطي العادي، بل الموظف العادي، أن ينتهر المواطن، وأن يماطل في تقديم الخدمات التي يكفلها له القانون!! (ربما ليبتزّه ويحصل منه على رشوة) فضلاً عما يمكن أن يعرّضه لمساءلة أمنية، قد يتبعها سجن وتعذيب وتغييب...
ويمكن أن نعبّر عن المغزى الثالث هذا بأن في بلاد الغرب يسود القانون، وفي بلاد العرب يسود الهوى والمزاج، وتضيع المسؤولية والحقوق...
ولا شك أن اجتماع هذه المغريات الثلاثة يجعل الفرد مؤهلاً لأن يسوّغ لنفسه التنازل عن بعض دينه، وقد يقول، ليقنع من يعنّفه في ذلك، أو ليتخلّص من عذاب "الضمير": وهل الناس في بلاد العرب والمسلمين يعيشون الإسلام؟ أوَليس الفساد فيها منتشراً؟ أوليست المعاصي سائدة؟...
وتحوّل الحديث إلى جانب أخطر، وهو مسألة الجيل الثاني Second Generation. أي قضية الذين يولدون في بلاد الغرب، أو يهاجرون إليها وهم في سن الطفولة الأولى، وذلك أن الذين عاشوا شبابهم في بلاد المسلمين، مهما تحدثنا عن مفاسد فيها، قد تشرّبوا بعض قيم الإسلام، وأصبحت مكوّناً مهماً في شخصياتهم، ومهما تأثروا بعدئذ بقيم الغرب وانبهروا بالتقدم المادي هناك، فإن عندهم ما يجعلهم متماسكين، ولو نسبياً.. وأما من عاشوا في الغرب منذ الطفولة فليس عندهم أدنى حد من الحصانة.
وبعد حوار امتدّ أكثر من ساعة، توافقنا على بعض النقاط:
1- لا ينبغي للمسلم أن يختار الإقامة في بلاد الغرب إلا إذا كان مضطراً.
2- من أقام هناك، مختاراً أو مضطراً، فليستثمر ما يجده هناك من إيجابيات، وليتجنب ما يجده من سلبيات. كل ذلك في حدود الإمكان.
3- ينبغي أن يكون الحديث داخل البيوت باللغة العربية حصراً. ومن السهل جداً على الطفل أن يتعلم لغتين في آن واحد: لغته العربية ولغة البلد الذي يقيم فيه.
4- ينبغي كذلك أن يتعلم الطفل القراءة والكتابة باللغة العربية حتى لا ينقطع عن فهم القرآن الكريم والحديث الشريف وما يتبعهما من علوم وأحكام وآداب...
5- يجب غرس الانتماء إلى الإسلام والاعتزاز به في نفوس أبناء الجيل الثاني، وأن يكون معيار الحلال والحرام هو ما يحكم السلوك.
6- يجب أن يكون سلوك الكبار والصغار، بما يتناسب مع قيم الإسلام، وأحكامه وآدابه، حتى يعطوا الغربيين صورة صادقة عن حقيقة المسلم.
7- هناك قيم عليا حض عليها الإسلام، وما يزال الغرب يحترمها في العلاقات الشخصية كالصدق والأمانة والرفق والنظافة... والمسلم أحقّ بأن يتمسك بها.
8- وهناك قيم وسلوكات في الغرب مغايرة لما في الإسلام كالربا والزنى وشرب الخمر والانفلات في العلاقات الجنسية... وعلى المسلم أن يتجنب ذلك كله، ويعلم أن ما جاء به الإسلام هو الحق والصواب، وإذا ضعُف ووقع في شيء من ذلك، فليُقرّ بأنه ارتكب إثماً، وليتُب ويستغفر...
9- يجب العمل على وقاية أبناء الجيل الثاني من الانحراف بنوعيه: الانحراف بسبب اتباع الشهوات كالخمر والزنى، والانحراف بسبب الشبهات كأن يتبنّى أفكاراً تتصف بالغلوّ والتطرّف كأفكار الخوارج، فيضلّ سعيه في الحياة الدنيا وهو يحسب أنه يحسن صنعاً.
10- مما يعين على وقاية الأبناء من انحراف الشبهات وانحراف الشهوات، أن يهيّئ الكبارُ لأبنائهم بيئة صالحة، قدر المستطاع، ويعلموهم كتاب الله وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة وأحكام الشريعة وفق ما وصل إليه الأئمة المجتهدون، دون تنطّع المتعالمين والمتفيهقين الذين تقودهم الحماسة والعاطفة من غير علم شرعي رصين.
وأحسب أن حواري مع الأستاذ قد أوصلنا إلى خلاصات طيبة تشخّص الداء وتصف الدواء، والله المستعان.
وسوم: العدد 702