فقه العمل العام
التصدي للعمل العام؛ أو الشأن العام، من الأمور المهمة، بعدما غدت المجتمعات أكبر من أن تسيطر عليها فئة تحكم، وأيضاً بعد تنوع المطالب الحياتية، وقلة الوازع الديني .
وأصبح الخلط بين الواجب والمستحب واضحاً لكل ذي عينين، وأضحى ملء السمع والبصر التداخل بين الطوعي والرسمي، وأمست منازعات النفوس أمراً واقعاً .
و تماهت الفواصل بين الواجب، والمندوب، والمصلحة ، وأعجب كل ذي رأي برأيه، فدخلت الأمة نفقاً لا تميز فيه بين الحريص على مصالحها، والمفرط عن غير قصد، وأصحاب المطامع، ومن يسيء استخدام الصلاحيات .
فكانت الوقفة مع ضوابط الشأن العام وأسسه ذات أهمية بالغة .
فما من تشريع على وجه الأرض سبق الإسلام بخصوصية التفرد الذي ينتج التكامل. فلا عبادة ، ولا تعامل شمل عقداً، أو أثمر عملاً في الإسلام إلا قام على أسس أربعة :
تبدأ باستجماع الفكر أو النية، ثم استحضار أقوال أو أفعال محددة ، أو الاثنين معاً، من ثم الشروع بالتنفيذ أو الإنجاز، ويضيف علماؤنا مآل الفعل ومنه القول، فليس كل ما تقدم كافياً ليكون العمل في كفة الحسنات؛ أو أن يكون نافعاً، أو على الأقل غير ضار مستقبلاً .
ولعظمة هذا الدين فقد تضمن تشريعات دقيقة لكل الحالات، فنجد في باب العقود مثلاً :
عقود المعاوضة [ بيع، وإجارة ..] ، وعقود الإرفاق [ القرض، والهبة أو التبرع...] ، وعقود الأمانة [ الوديعة، والكفالة..] .
وثمة قاعدة عامة تحكم جميع هذه العقود { العبرة بالمقاصد والمعاني، لا بالألفاظ والمباني} ، ويحكمها مقياس واحد جميعاً هو : مقياس الصحة والفساد .
والمسلم يتحرك في ثلاث دوائر :
- علاقته بربه .
- وعلاقته مع أسرته .
- وعلاقته مع المجتمع والعالمي .
والشأن العام يتبع الدائرة الثالثة ، فالمجتمع المسلم مجتمع تراحمي، ورغم أنه هذه المعلومة بدهية، إلا أن كثيراً منا يخضعونها للنظرة الغربية حيث النفعية هي المبدأ التي تقوم عليه .
فالمجتمع المسلم مجتمع خير لا يتعامل إلا به .
وعرف علماؤنا الخير؛ قال الأصفهاني في تعريفاته عند مادة "الخير" :
[ إن الخير ما يرغب به فيه كل البشر؛ كالعقل والعدل والنفع والفضل، وضده الشر] . ولاحظ كلمة كل البشر بمعنى الإنساني، ولاحظ كلمة شر تضاد كل ما سبق .
ويوضح أبو هلال العسكري الخير بقوله :
[ إن كل خير نافع، وليس كل نافع خيراً] .
ووردت كلمة الخير في القرآن بنحو مئة وثمان وثمانين مرة .
ولأن عامة ما ينتجه الإنسان يسمى عملاً سواء كان قولاً أو فعلاً، ترد كلمة فعل عند الفقهاء للتعبير عنهما، ومن عبارتهم [ لا تكليف إلا بفعل]، وقسموا ذلك حكماً إلى: ديانة والمراد الثواب والوزر، وقضاء وهو يتعامل مع الظاهر بغض النظر عن النية .
وأيضاً كلمة العمل كلمة قرآنية بامتياز، حيث وردت في التنزيل هي ومشتقاتها بنحو ثلاثمائة وإحدى وسبعين مرة، لتُفصِل وتدل على أهمية العمل سواء كان أخروياً أو دنيوياً، ونلحظ أن كلمة العمل لغةً : تشمل الحركات الإرادية وغير الإرادية .
وكل ما يقوم به الفرد وتنحصر نتائجه به، يسمى عملاً فردياً ، وكل ما تعدى ذلك، فهو عمل جمعي، والمسلمون هم أول من مارس العمل الجمعي بمعنى المؤسسي، فنجد شيوخ العلم في عصور السلف هم من يقودون المجتمع آنذاك فهم المراجع، لكنها مراجع علمية وسلوكية ، ثم تطور المجتمع الإسلامي إلى المدارس المذهبية، التي تقوم على تعليم وإرشاد وتربية أبناء المجتمع ، فيهذب المسلم بهذه المدارس سلوكه الفردي والجمعي، فكان المجتمع الإسلامي يقوم على مؤسسات المجتمع المدني بشكل واضح لم يسبق .
هذه المؤسسات المدنية الأهلية تلتزم الشريعة الغراء، التي أفردت اصطلاحات، تعارف عليها المسلمون ، تتدرج بمقياس يبدأ من الواجب وينتهي بالحرام، كالفرض العيني ويراد به الشخصي، وثانيهما: الفرض الكفائي، ويراد به فرض المجتمع ككيان مستقل، والفروض الكفائية كلها أعمال طوعية لا تلزم إلا في حالة واحدة، وهي تَعين شخص ما لهذا العمل بسبب كفاءة محددة.
ثم أفردت قسماً كبيراً سمّي المستحب والذي تبع الواجب بقسم عيني وكفائي أيضاً، وحق لنا أن نتعجب من دقة فقهائنا رحمهم الله عندما وسعوا هذا المعنى لغوياً : فقالوا تطوع، وندب، ونفل، وقربة ، وإحسان ولأهمية التطوع نجد هم قالوا : [ المندوب بالجزء واجب بالكل ، والمكروه بالجزء ممنوع بالكل ].
ومن ثم المباح الذي غدا المسلمون الآن ينظرون إليه باستخفاف، مع أن العلماء أطالوا النفَس فيه فقالوا: مباح شرعي "بنص" ، يمكن أن يرد عليه النسخ بنص آخر، ومباح عقلي أو أصلي لأن الأصل في الأشياء الإباحة، وهذا لا ينسخ، بل قسم الإمام الشاطبي المباح إلى جزأين رئيسيين هما : مباح بالجزء واجب بالكل، ومباح بالجزء مندوب بالكل، ومنهي بالجزء حرام بالكل، ومكروه بالجزء حرام بالكل.
ونفروا من كل ما هو مؤذٍ بكلمة مكروه.
وضعوا أمام كل ضار نهياً بقولهم حرام ولم يقولوا لا يصح، وهنا القصد على التحريم الاجتهادي" غير ما هو منصوص عليه"، ولفتة ربطه بالأجر الأخروي .
ولو أنعمنا النظر باصطلاحاتنا الشرعية لألفينها كلمات تعبر عن قوانين بكلمة واحدة، تساعد العامي والمتعلم والعالم على اتخاذ القرار الصحيح بلا جهد، أيًا كانت ظروفه .
ولأهمية الدور المجتمعي وتهيئة المسلم له ، نص عليه القرآن الكريم، فالمسلم ايجابي لا سلبي؛ قال تعالى : { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ ۖ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ۙ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }
النحل 76.
والمسلم مبادر لا يعرف التسويف؛ قال تعالى :
{ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} الحديد 10.
و المسلم مبادر لأن المبادرة أدنى مراتبها الإعذار إلى الله؛ قال تعالى :
{ إِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ۙ اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ۖ قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } الأعراف 164.
ومن هنا نجد أن الشريعة الغراء، نقلت المسلمين نقلة عظيمة من العفوية، إلى التنظيم والرقي، فلم تترك المسلم بلا ضوابط تساعده لتنظيم شؤون الحياة جميعاً .
ومن الخطل الظن أن أمور المجتمع تتبع الاجتهادات الشخصية والمروءات، وهي الوحيدة التي تحكم الممارسة العامة .، والعمل التطوعي يصير واجباً حال قبول الشخص أداءه سواء بأجر أو مكافأة أو التزام، فلا يحق له التهاون بالأداء، سواء كان خدمياً أو غيره، فعليه الالتزام بالوقت والإنجاز ويعامل المجتمع ككل معاملة الفرد على سواء بشقيه الرسمي والتطوعي؛ الذي يتبع الولاية بالمصطلح الإسلامي، وهو باب كبير في الفقه*، يخضع لتبويب منها الخاص والعام، والأصلي والمكتسب، وفي مدونات الفقه نجد تفريع الولاية إلى سياسية واجتماعية وعلمية، ... .
وفي عصرنا الحاضر تداخل العمل الرسمي مع التطوعي، وغدت كثير من الولايات التطوعية رسمية، ومن أدق من عبر عن مفهوم الولاية ابن الأثير في كتابه غريب الحديث عند مادة " ولي" قوله :
[ وكأن الولاية تشعر بالتدبير والقدرة والفعل، وما لم يجتمع ذلك فيها لم يطلق عليها اسم الوالي] ، والولاية هي الوحيدة التي خالفت نسق القواعد الفقهية، حيث عموم القواعد الفقهية تقدم العام على الخاص، إلا الولاية فتقدم الخاص على العام كما ذكر السيوطي، وذلك لأن صلاح الخاص بمجموعه يؤدي إلى إصلاح العام، بمعنى الاهتمام بأي نازلة وإن كانت فردية لدى من تولى أمراً ما.
والولاية سواء كانت رسمية أو تطوعية تملي واجب المكان وواجب الوقت، فمن هو مسئول عن قطاع ما ؛ يجب أن يتحلى بالمسئولية، فما هو بحق غيره مستحب قد يكون عليه واجباً لأنه مسئول عنها، و لا ينسى أن كلمة مسئول اسم مفعول، بمعنى سيسأل عنها والذي يسأله هو ربه جل وعلا الذي لا تخفى عليه خافية .
فالأولى لمن يريد أن يكون شخصاً فاعلاً في المجتمع الإسلامي أن يلم بالضوابط والمعايير، ولا يكتفي بتخصص حياتي مثل الطب أو الهندسة، أو الاقتصاد،...، فهي شروط لبعض الأعمال ولكنها تُتبع بموانع وأسباب، ، ومراعاة الوضع أو الواقع، وتخضع للصحة والفساد .
ثم نرى من المسلمين من يتخطى البدهي، ويتصرف بعشوائية، نتائجها لا محالة الفشل والإخفاق.
*- على عكس ما يروج له دعاة فصل الدعوي عن السياسي، بشكواهم من قلة ما كتب في الفقه السياسي، وكثرة ما كتب في العبادات .
وسوم: العدد 703