الشيخ الأخضري والمتون
الحمد لله لأول سنة ميلادية أبدؤها، ويملؤني التفاؤل، فلم أكن لأتخيل أن أحظى بمرافقة شيخي وأستاذي الدكتور أبي عبد الرحمن الأخضر الأخضري، تلك القامة الرفيعة التي رضعت لبان العلم الشرعي عقداً ونصفاً من الزمان حتى تضلعت منه، من صدر كنانة علماء دمشق ، وهو الجزائري .
كانت زيارته لباريس من قبل خاطفة يومين أو ثلاثة، فلم نحظ منه سابقاً إلا بفتات الوقت، سويعات فحسب، فهو بين محاضر ومشرف على مناقشة رسالة، لكن المولى جل اسمه هذه المرة تركنا نعب من علمه أكثر من عشرة أيام بلياليها، بين تواصل ومأدبة ومهاتفة، بعدما كدنا أن نهلك في بيداء الغرب، عطشاً لزلال معين الشريعة الغراء، وجوعاً لولائم السادة العلماء، وقلما يمن الزمان على قاطني الغرب، بعالم يوضح الغامض، أو يحل المستغلق، أو يدرك البعيد .
والمفارقة أنه بادرني بكتيب صغير، آخر ما جاد به فكره، خط أمامي إهداءً لشخصي الضعيف، تصفحت جله وأنا بالمترو- قطار الأنفاق-، ثم أعدت الكرة في المنزل، وكان لقائي الثاني معه أن قلت له: يا شيخنا تحدثت كثيراً عن عوائد العرب في فهم المقاصد الشرعية، وأراك في هذا الكتاب كأنكم تقولون: وكذلك العودة إلى عوائد السلف في تلقي العلم، فما قصة الكتيب وما هي إملاءات الشيخ عليه ؟ .
الكتاب متن- ولك أن تتخيل من يكتب متناً في هذا العصر- ، من الحجم المتوسط يبلغ اثنتين وأربعين صفحة. انطباعي الأول أنه يمتاز بإجمال العبارة، مع تجذرها العربي، فتجد عبارات من مثل : عرق القربة، حيث ألقى القوس بسهام النظر، ثم ينصب خيمة النظر عند الريد،...
أما القراءة الثانية فإن المقاصد لم يكتب عنها باستقلالية إلا في العصر الحاضر، ويعد شيخنا الأخضري رائداً في التنظير لها، عبر متنين أولهما نظم، والأخر نثر وهو كتابنا هذا" القاصد إلى علم المقاصد "، وما سأكتبه انطباعات لا شرح؛ ولا اجتزاء إلا عبارات .
الجديد اختصارات تتمثل في تكثيف المعنى، والإيماءات حول المناهج المقاصدية، ومعلوم أن المقاصد خصوصاً في مسالكها، الناس فيها عالة على عَلَمين هما الإمام الشاطبي، والإمام الطاهر ابن عاشور، حيث حدد الأول أربعة مسالك للكشف عن المقاصد، فيما اختزلها ابن عاشور بثلاثة، وهنا تكمن إضافات شيخنا الأخضري، بالدمج والإضافة، فيضع خمسة موازين للكشف عن المقاصد هي:
1- مقام لسان العرب، ولطالما نبهنا نحن طلبته؛ إلى مقتضى اللسان في الحكم الشرعي، وهو أول فقيه أراه عند أي حكم يستشهد بعوائد العرب حتى في الأحكام المُسَلمة، ويطالب دائماً بالإقامة عند النص بلسان وعادات العرب، وعلل النصوص، والقدر المشترك ، وعند الملازمين للتشريع في القرون الأولى- السلف- حكماً وحقيقةً .
2- مقام الأوصاف الكلية، وهنا يشدد على الصفات البارزة لتعلق التشريع العام في محاكمة الواقع .
3- مقام المناسبات .
4- مقام المعهودات الشرعية .
5- الارتقاء من الجزئي أو الخاص فالكلي أو العام .
من ثم يقول إذا سكتت المقامات ، فالمحاولة الأخيرة في مقام التعبد طلباً للعون الإلهي .
المتن عموماً تخصصي، وربما كل سطر فيه يحتاج لمحاضرة، ومما ذكره فيه، أحد عشر تقسيماً للمقاصد،(عام وخاص، وأصلي وتبعي، وجزئي وغالب، وقرآني ونبوي، وعقدي وفقهي، وقطعي وظني، وحقيقي ووهمي، وضروري وحاجي وتحسيني، وثابت ومتغير، معتبر وملغي ومرسل). ومما راجعته به فتكرم علي بالشرح، قوله : المقاصد مناطها مواقع الموجودات حيث مجاري العادات، أو حيث التعلق بخطاب الشرع .
وسألته عن علة خفي المناط في معظم الأحكام فقال : تشريفاً للمكلف، وأوضح الفرق بين العلة والقصد، والحِكمة والغاية فقال: بينها خصوص وعموم .
وشكوت له مقاصديي السياسة فأشار إلى المتن الذي ورد فيه :
[ لا تتصور مزاحمة المقاصد للنصوص لعدم الانفكاك بينهما] ص 5 .
ودون أن للمقاصد مشارب بقوله: [ قاصد مغربي، وأندلسي، ومصري، ومدني، وعراقي ، وشامي] ص6 .
ويركز على دبر النصوص في الفهم أيما تركيز .
ومما جاء في ثنايا المتن أن تعريف المقاصد عزيز ومدعيه متكلف، قال:[ وإما إرجاء الحدود إلى حين نسج المقصود، .. وهذا صنيع الفحول في المبتكرات كما فعل الأئمة في القواعد والرسالة والموافقات] المتن ص 9، وفي مناقشة بيني وبينه بحضور بعض طلبة العلم، أشار إلى أن سبب ذلك تعلق المقاصد بأي حكم، فالمقاصد روح الأحكام جميعاً، ومن يظن أنها تشمل أحكاماً تمس الشأن العام فحسب، هو مريب متطفل على المقاصديين، قال :
[ إن للتشريع سيرة لا يخلفها أصالة، أو عدولاً، ومنهجاً لا يتهافت ميزانه حلاً وترحلاً، ومراوحة لا يختل عندها المعيار ركوباً أو ترجلاً، فحيث ألقى القوس سهام النظر ، ظفر بالحكمة حال التأسيس أو التشاجر] المتن ص 40.
ومن فضل الله علي كنت آخر تلامذته وداعاً ليلة سفره، وفي الفندق ونحن على الطريق، أسأله المسألة تلو الأخرى ، ومما أجاب وأحب ذكرها، قلت: يا شيخ نضطر أن نصلي في المترو جلوساً وإيماءً خوفاً من فوات الوقت وربما تكرر ذلك، فقال: مقام الوقت خوف فواته أكبر من القيام والركوع والسجود .
وسوم: العدد 704