شاعر الرسول الخاتم في الجاهلية..

الطيب عبد الرازق النقر

شاعر الرسول الخاتم في الجاهلية..

الطيب عبد الرازق النقر

الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا

[email protected]

شاعرنا حسان الذي يجلو أبكار المعاني، ويبتدعها، يعود إلى بيت رفيع الدعائم، ومنزل معلوم المفاخر عند الخزرج والعرب قاطبة، فوالده ثابت بن المنذر بن عدي من بني مالك ابن النجار، من سادة قومه وأشرافهم، وبنو النجار تلك القبيلة الكبيرة التي كانت تقيم في المدينة مع الأوس، هم أخوال النبي الخاتم صلوات ربي وسلامه عليه، لأن أم جده عبد المطلب كانت منهم، وأم حسان التي كان بعض المناكفين له يدعونه بها، هي «الفريعة» بنت خالد بن حبيش خزرجية مثل أبيه، وقد أدركت الإسلام، ودخلت فيه وحسن إسلامها، ولد أبا الوليد وهذه كنيته، كما كان يُكنى بأبي عبد الرحمن، وأبا الحُسام نحو ستين عاماً قبل الإسلام، ونشأ وترعرع في «يثرب» تلك المدينة التي اصطفاها النبي صلى الله عليه وسلم على سائر المدن وخصاها برحلته التي غيرت مجرى الكون، «وكانت المدينة في العصر الجاهلي مجتمعاً صغيراً تسوده الحروب الدامية التي تقوم بين الأوس والخزرج، وبينهم وبين اليهود الذين كانوا قد استوطنوا المدينة. وكان جده المنذر محباً للسلم، ولما اختلفت الأوس والخزرج بعد يوم سُمَيْحة في أمر القتلى والديات، أهدر المنذر ديات قومه الخزرج واحتمل ديات القتلى من الأوس من ماله الخاص حرصاً على السلم»، واستمر ذلك البيت على تلك المآثر في الإسلام أيضاً، «فأبوه ثابت بن المنذر كان حكماً بين الأوس والخزرج في يوم سمير، وشهد أخوه أوس العقبة مع السبعين من الأنصار، كما آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بينه وبين عثمان رضي الله عنه، وكان أحد شهداء يوم أحد»، كما كانت أسرته راسخة القدم في البيان، عريقة في قرض الشعر ونظمه، قال فيها المبرد: «وأعرق قوم كانوا في الشعر آل حسان، فإنهم كانوا يعتدون ستة في نسق، كلهم شاعر، وهم: سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام»، وتحكي لنا الكتب التي استوعبت أصول الأدب، وحوت أطرافه، أنّ عبد الرحمن ابن الجارية سيرين، تلك المرأة القبطية التي وهبها النبي صلى الله عليه وسلم لشاعره حسان، وهي كما نعلم شقيقة أم المؤمنين «ماريا القبطية» لسعه زنبور «فجاء أبوه يبكي، فقال له حسان: ما لك؟ فقال: لسعني طائر كأنه ملتف في بردي حبرة، فقال له حسان: لقد قلت والله الشعر»، كما كان خاله مسلمة بن مخلد من صاغة الشعر، وراضة القوافي، وأخته خولة لها شعر رقيق الحواشي، مليح الديباجة، وكانت ابنته ليلى كذلك، فقد قيل أن حسان قد جفا الرقاد، واكتحل السهاد ذات ليلة، فعّن له الشعر فقال:

وقافيـة قـد عجـت بـليـل رزيـنة    تـلقـيت مــن جـو الـسماء نـزولـها

ثم أجبل حسان وسكت، وكانت ابنته معه فقالت له: كأنك اجبلت. قال حسان: أجل، قالت: أفأجيز عنك؟ قال حسان: وعندك ذلك؟ قالت: نعم. قال: فأفعلي. فقالت:

يـراهـا الـذي لـا يـنطق الـشعـر عنـده 

ويـعجـز عـن أمثـالها أن يقـولهـا

فحمى حسان عندها وقال:

مـتاريـك أذنـاب الحقـوق إذا التـوت 

أخذنـا الفـروع واجـتنـينا أصـولـها

فقالت:

مـقاويل بالـمعـروف حـرس عـن الخنـا

كـرام مـعـاطٍ للعـشيـرة سـولـها

فقال حسان: لا قلت شعراً وأنت حية

فقالت: أو أؤمنك؟ قال: وتفعلين؟ قالت: نعم لا قلت شعراً وأنت حي. فأسرة حسان موصولة النسب بالشعر يتوارثونه كابراً عن كابر.

لقد سخر حسان قريحته الشعرية التي تدفقت عليه منذ أنّ كان في معية الصبا، وطراءة السن، للذّب عن قومه الخزرج في عراكهم الذي لا تنقطع وتيرته مع الأوس، يحصي مناقبهم، ويعدد مفاخرهم، ويسجّل مآثرهم، ولقد دخل في عراك شعري محموم مع الشاعرين الأوسيين: قيس بن الخطيم وأبي قيس بن الأسلت. ومن بعض أشعاره التي تجسد تلك الفترة، أبيات يهجو فيها أبي قيس بن الأسلت هجاءً مقذعاً، ويطحنه فيها طحن الرحى، يقول فيها:

ألا أبـلـغْ أبـا قـيـسٍ رســولاً،    إذا ألــقَى لــها ســـعاً تـبِينُ

نـسيتَ الجـسرَ يومَ أبي عــقيـلٍ    وَعــندَكَ مـنْ وَقـائِعِنا يَقِــيـنُ

فـلسْـتُ لحاصـِنٍ إنْ لم تـزُرْكمْ    خــلالَ الـدورِ مـشعـلة ٌ طـحونُ

يـديـنُ لهـا العـزيزُ إذا رآهـا،    ويــهربُ مـن مخـافتها القـطـيـنُ

تَـشِيبُ النـّاهدُ العـذراءُ فيهـا    ويـسقــطُ منْ مخـافـتهـا الجنـينُ

عـيْنَيـكَ القـوَاضِبُ حينَ تُعْـلى    بهـا الأبـطـالُ والهـامُ السـكــونُ

تجـودُ بأنْـفُسِ الأبْطـالِ سُجْحاً    وأنـتَ بنـفسـكَ الخـبُّ الضـنـنُ

ولا وقْـرٌ بسـمعِـكَ حِينَ تُدْعى    ضـُحـى ً إذ لا تُـجِيـبُ ولا تـُعِينُ

 ولقد أُوتي حسان من سعة الرزق، ونضرة الشباب، وشرف النسب، ومكانة الأسرة، والموهبة الشاعرة، والبيان الساحر، ما أتاح له أن يلهو ويبذخ، ويصبو ويطرب، فيعابث القيان، ويعاقر الخمر طوال نصف قرن، هو الزمن الذي انقضى من عمره المديد في الجاهلية، وهو على دين قومه. وبهذا الرغد في العيش، والانغماس في اللذات، وإيثار الترف على الشظف رقّ شعره، وصفا أسلوبه، وعذب لفظه، وغدا من أعلام الشعر في يثرب.