أدب الدُّرْج (الأدب المخبوء)

أ. د. فاروق مواسي

[email protected]

من أدبـيّـاتـي:

.......................................................

للمتعجلين أوجز:

الأدب لا بد له من النَّشر، تمامًا كالوردة التي يجب أن يفوح   نشرها وأريجها.

.........................................................

كان أحد أصدقائي يتعاطى الأدب بإدمان مستحب، وكان يكتب ولا ينشر.

سألته: لمَ تحجم عن النشر؟

كان يجيب  ببعض التملص وحسن التخلص-  أن الأوان لم يأن، وأنه لا يجد سبيلاً للمصالحة مع هذا الجو الأدبي الراهن المقيت.

نعم، ثمة موهوبون آخرون يكتبون، ويُودعون ما يكتبون في الدُّرْج، يناظرونه أجلاً غير مسمى، وهيهات!

ومثل أدب “الدرج” هناك أدب مخزون في الذاكرة، لا يجد صاحبه الوقت لأن يسطّره، أو لا يجد الجرأة في إخراجه، فيتهافت تدريجيًا، ويصبح كأنْ لم يكن، أو كأنْ  لم يَـغنَ بالأمس.

ونحن إذا سلّمنا بعلاقة الأدب في المجتمع، وتأثيره المباشر وغير المباشر عليه من حيث التغيير وبناء الإنسان، فإن الأديب مسؤول عن  إخراج أدبه، ولن تكون العملية الأدبية متكاملة إلا يوم نشرها وإطلاع الجمهور عليها، حتى لحظة يستمتعون  بها، أو يفيدون منها، أو حتى يضيفها المتلقي  إلى مخزونه وذاكرته الجماعية.

ولو استقصينا أسباب إحجام بعض الأدباء عن النشر فإننا نجد بعضهم لا يقوون على مقارعة المسلَّمات،  أو طرق باب التابوهات - المحرَّمات – من أمور السياسة والدين والجنس على وجه التخصيص، فمن يكتب ولا ينشر فإنه أشبه بحالة الاتصال في طي الكمون، وهو بالتالي فاعل محايد، وكل حَـيْدة في المسائل الجِدية إنما هي نكوص وارتداد وتواطؤ.

ثم قد يكون إحجام البعض الآخر خشية من أنه لم يصل إلى المستوى الذي يرضاه، وهو من هؤلاء الذين يُسرفون في نقد أنفسهم،  وفي تقديري أن المخرَج من هذا التشدد أن نتذكر ما قاله القاضي الفاضل للعِماد الأصفهانيّ معتذرًا عن كلام استدركه عليه–

“ أنه قد وقع لي شيء، وما أدري أوقع لك أم لا، وها أنا أخبرك به، وذلك

أني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتاباً في يومه إلا قال في غده لو غير هذا لكان أحسن، ولو زيد لكان يستحسن،  ولو قدم هذا لكان أفضل،  ولو ترك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر،  وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر”.

من جهة أخرى، قد يحجم البعض لتردده أو رهبته أمام “جماعة مرجعية” يظنها العنوان الأفضل للحكم، وربما يكون قد أدلى دلوه ذات مرة، فاكتشف أن أدبه في مستوى متدنٍّ، فقرر أن “ يحترم نفسه“ وأن يتعلم أكثر.

 وربما يكون التردد بسبب تجربة له مع الصحف، فهي تتحرّج من أفكاره أو أسلوبه، وربما يكون الكاتب بعيدًا عن العلاقات الاجتماعية- التي تفرضها الصحافة وتنشئها  مع كاتبيها، فهو لا يلجأ إلى الوسائل التقرُّبية  (قل العَلاقاتية) في كثير من الصحف.

من أطرف ما سمعته من كاتب أحببت كتابته، بعد أن  سألته لم لا تنشر؟

 أجابني: إن ما أدعو إليه أراه اليوم يتحقق، ولذا فلا أجد ضرورة آنية للإضافة...

كنت أدعو مثلاً إلى حرية المرأة وتعليمها ومكانتها، وها هي اليوم – وبصورة  تلقائية  تأخذ دورها الفعال في مجتمعنا.

فما ضرورة الكتابة وجدواها في هذا الباب أو في سواه، ما دام دولاب الزمان يدور، والتغيير حاصلاً؟

قلت له: يا عزيزي إن المثقف بطابعه المعاصر هو ناقد اجتماعي، ولا يتوقف نقده.

 إنه بطبيعته لا يندمج مع الواقع بمسلَّماته، وكل ابتعاد عن الممارسة الفعلية للمثقف بهذا المفهوم إنما هو انعزال عن دوره النقدي الوظيفي، وهو بالتالي حرمان لشخصيته من أن تثبت وجودها وكينونتها.

أما الأديب الممالئ لهذه المسلّمات فإنه غالبًا ما يبحث عن التبرير والتماس الأعذار. وفي تقديري أن لديك الكثير مما يجب أن تقوله بأسلوبك الرائع، والكلمة في محلها قنطار.

قال: أصدقك أنني أكتب خواطري في دفتر مذكِّراتي.

قلت: هذا النوع من الكتابة منك وإليك، هو مراجعة للنفس ومراوحة للذات، قد تجد فيه بعض التعزية والسلوى، وقد تتذكر لتحفظ (بالمعنيين) أو لتنسى، ولكنك على كل حال لا تكتب أدبًا بمعنى الكلمة، فالأدب لا بد له من النشر، تمامًا كالوردة التي يجب أن يفوح  نشرها وأريجها.

قال: إذن، سأنشر باسم مستعار، لأني لا أحب الظهور.

قلت: الاسم المستعار لا يبرره إلا ضرورة قصوى كالمخاطر أو المبررات  الجِدية، أما الاسم المستعار لغرض فنّي،  فهذا هو شأن آخر، وليس لي عليه اتهام.

قلت: آن الأوان  أن يكتب أصدقاؤنا أولئك المتهيبون، ويقحمون عالم الكتابة  ما دامت في جعابهم سهام قد تصيب، وما دام خافقهم فيه وجيب.

المهم أن يكتبوا ما فيه إبداع أو إمتاع أو إقناع.

..........................................

من كتابي: أدبيات- مواقف نقدية.القدس- 1991، ص 112- 115.