حكم التدرج في تطبيق الشريعة الحلقة 2 من 2
بيّنّا في الحلقة الأولى أن على المسلمين، أفراداً وجماعات، أن يلتزموا بأحكام الإسلام جملةً وتفصيلاً، فلا يُرجئوا تطبيق شيء منها إلا في حال عدم القدرة على تطبيقه، لأسباب ذاتية وداخلية، أو أسباب خارجية. وفرّقنا بين من يحارب تطبيق الشريعة ويعمل على إقصاء ما استطاع من أحكامها، وبين من يطبّق ما استطاع منها ولو تدريجياً. وذكرنا أخيراً العوائق أمام تطبيق الشريعة في هذا العصر. وفي هذه الحلقة نذكر أدلة المانعين من التدرج، والمجيزين له وضوابط ذلك. كما أن أحد الإخوة الفضلاء، بعد أن اطلع على الحلقة الأولى أرسل إلينا استدراكاً مهماً يفصّل بعض ما ألمحنا إليه إلماحاً. ونظراً لأهمية استدراكه هذا سنذكره كاملاً في نهاية هذه الحلقة.
أدلة المانعين من التدرج:
1- قول الله تعالى: (يأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة) {سورة البقرة: 208} وهذا أمر بالتزام الشريعة جملة كاملة. قال القرطبي: هو أمر بالعمل بجميع شرائعه، وإقامة حدوده، دون تضييع بعضه والعمل ببعضه، كما ذمّ الله تعالى وتوعّد من يأخذ ببعض الأحكام ويترك بعضها، كقوله تعالى: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) {سورة البقرة: 85}.
2- قول الله تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم. ومن يعص الله ورسوله فقد ضلّ ضلالاً مبيناً) {سورة الأحزاب: 36} فليس لنا الحق في أن نختار من الأحكام ما نشاء، وندع ما نشاء، ما دام الحكم جليّاً واضحاً.
3- قول الله تعالى: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك) {سورة المائدة: 49} فأي تحذير أبلغ من هذا على ترك أي شيء من شرع الله؟!.
4- كما استدلوا بعموم قول الله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) {سورة الحشر: 7} وأن الإسلام بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اكتمل، ومن غيّر أو بدّل فقد جعل من نفسه مشرّعاً.
5- كما استدلوا بمواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حيث رفضوا فيها التدرج، فقد عُرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم الملك والزعامة فرفض، وكان من خلالها يستطيع أن يصل إلى ما يريد من بلاغ دعوته، كما رفض أبو بكر الصديق إسلام من منع الزكاة، وقاتلهم في أحلك الظروف.
6- وقالوا: مَن ينادي بالتدرج يقع في محذورين: الأول عدم تنفيذ شرع الله، والثاني تطبيق حكم الطاغوت.
أدلة جواز التدرج:
1- نفي الحرج: وقد أكد ذلك عدد من الآيات الكريمة كقوله تعالى: (ما يريد الله ليجعل عليكم في الدين من حرج). {سورة المائدة: 6}، (لا يكلّف الله نفساً إلا وسعها). {سورة البقرة: 286}. وقوله سبحانه: (فاتقوا الله ما استطعتم) {سورة التغابن: 16}.
2- المنهج القرآني في التدرج: فقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: "إنما نزل، أول ما نزل منه، سور من المفصّل، فيها ذكر الجنة والنار. حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام، نزل الحلال والحرام. ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبداً. ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبداً".
3- المنهج النبوي: وفي هذا المنهج شواهد كثيرة منها ما روى البخاري عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية، لأمرتُ بالبيت فهُدم، فأدخلتُ فيه ما أُخرجَ منه، وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين: باباً شرقياً، وباباً غربياً، فبلغتُ به أساس إبراهيم".
ومنها امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين مخافة أن يقال: إن محمداً يقتل أصحابه.
وأصرح من هذا ما روى البخاري ومسلم عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فتردّ على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك فإياك وكرائم أموالهم. واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبينه حجاب".
وفي روايات أخرى صحيحة أيضاً أن هذه الوصية كانت حين بعثه إلى اليمن.
4- سيرة الراشدين: كعلي بن أبي طالب، وعمر بن عبد العزيز، رضي الله عنهما، وفي هذه السيرة شواهد كثيرة على مراعاة أحوال الأمة، والتدرج فيما يؤدي إلى استكمال تطبيق الشريعة، ولا يحرج الحاكم أو المحكوم. فقد روى ابن الجوزي أن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز دخل على أبيه أمير المؤمنين وطلب منه أن يستعجل في رد المظالم فأجابه: إن نفسي مطيّتي، إن لم أرفق بها لم تبلّغني، فلا تعجل يا بنيّ، وإني أخاف أن أحمل الناس على الحق جملةً، فيدفعوه وتكونَ فتنة.
6- القواعد الفقهية مثل: المشقة تجلب التيسير، والضرورات تبيح المحظورات، وارتكاب أخف الضررين.
7- مراعاة القواعد الأصولية كالاستحسان والمصالح المرسلة وفقه المآلات.
8- اجتهاد علماء ثقاة كأبي الأعلى المودودي ويوسف القرضاوي.
فالمودودي له كلام طويل في هذا تحت عنوان: تنفيذ القانون الإسلامي في باكستان (في كتابه: القانون الإسلامي وطرق تنفيذه، ص49).
والقرضاوي يقول: (وهذه السنة الإلهية في رعاية التدرج، ينبغي أن تُتّبع في سياسة الناس. وعندما يراد تطبيق نظام الإسلام في الحياة... فلا نتوهم أنه يتحقق بجرة قلم، أو بقرار من رئيس أو مجلس.. إنما يتحقق بطريقة التدرج... وهو المنهج الذي سلكه النبي صلى الله عليه وسلم لتغيير الحياة الجاهلية إلى حياة إسلامية).. من كتاب: الخصائص العامة للإسلام، ص167.
والناظر في أدلة المجيزين للتدرج والمانعين له يرى أنه لا بد من القول بالجواز، إذ هو المقدور عليه، وهو تدرج في التنفيذ وليس تدرجاً في التشريع، وهو ما ذهب إليه أعلام هذه الأمة كالإمام مالك والجويني وأبي إسحاق الشاطبي وابن تيمية... من الأقدمين، والمودودي والقرضاوي والزحيلي والصلّابي وغيرهم، من المعاصرين.
ضوابط التدرج المشروع:
1- تبصير المسلمين بوجوب الاحتكام إلى دين الله تعالى في أمورهم كافة، وأن ذلك مقتضى إيمانهم.
2- تأكيد عقيدة "إن الحكم إلا لله" وتثبيت أركان العقيدة جميعاً.
3- الدعوة الحثيثة للالتزام بأمهات العبادات وأركان الإسلام وتأكيد أن العجز عن تطبيق أحكام الشريعة على مستوى المجتمع، بسبب عوائق داخلية وخارجية، لا يُعفي الفرد المسلم من الالتزام بأحكام الإسلام كاملة ما أمكنه ذلك، فعدم وجود قوانين تمنع الربا وشرب الخمر... لا يجعل ارتكاب هذه المعاصي مباحاً.
4- التطبيق الفوري لما يمكن تطبيقه في الحياة الفردية والجماعية، مع ملاحظة العوائق النفسية والداخلية والخارجية.
5- نشر العلوم الشرعية، ورسم الخطط لمتابعة التدرج نحو الكمال، وتعاون المؤسسات التربوية والإعلامية.
6- التقيّد بضوابط التدرج حتى لا يكون ذريعةً إلى التهرّب من واجب طاعة الله تعالى.
* * * *
وهذا استدراك الأخ الفاضل محمد زاهد أبو غدة:
جزاكم الله خيراً لهذا البحث المهم، ولكنكم ركزتم بعض الشيء على العوائق السياسية الخارجية ثم الداخلية، وهناك عوائق أخرى ألمحتم لها فلعلكم تجلونها أكثر، وأوردها كما جاءت اتفاقاً لا بحسب أهميتها:
غياب البديل المؤهل لسن الناحية التشريعية وإسقاط الأحكام الشرعية على الواقع وإلباسها لباساً قانونياً محكماً
غياب البديل من الناحية البنيوية التمويلية (البنوك وشركات التأمين) أو الاقتصادية (الزراعة الصناعة والأعمال) أو الاجتماعية (الجمعيات والمؤسسات العامة)
غياب الكوادر المؤهلة علماً وخبرة لتطبيق الشريعة في أغلب المجالات
قلة الخبراء المؤهلين للتخطيط لعملية التحول ومتابعتها ليكونوا مراجع في مستجدات التطبيق
صغر حجم اقتصاد البلد واعتماده على مرتكزات خارجية غير مطابقة للشريعة
ارتفاع سقف التوقعات لدى الجمهور المسلم سيقود لخيبات أمل وانتكاسات كبيرة في التأييد، لأن تطبيق الشريعة عملية متدرجة أفقياً وعمقاً، ولا يمكن أن تحقق النجاح بين عشية وضحاها، إلا في دولة بسيطة التركيب، مثل أفغانستان في عهد الطالبان...
هذه بعض الأفكار التي بدت لي، مع خالص التحية والتقدير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وسوم: العدد 706