ذلك العقم في قابلية المسألة السورية للحلّ

بعد معركة حلب ووقف إطلاق النار ومُحادثات الآستانة، بات واضحاً بأن قواعد إستراتيجية كانت مقلقة، باتت اليوم من القواعد الراهنة والمُستقبلية للمسألة السورية، مكشوفة والجميع يُسلم بها.

في ما يتعلق بالنفوذ الإستراتيجي الروسي عسكرياً وسياسياً. وهو أمر محسوم وتقبله الولايات المُتحدة والاتحاد الأوروبي، باتت روسيا تتصرف كلاعبٍ عضوي في المسألة السورية، وتفاوض وكأنها المُمثل الشرعي للنِظام السوري والقوى الحليفة له، وفي كل التفاصيل. هذه «الشرعية» جعلت القوى الإقليمية تفضل مُفاوضة الطرف الروسي بدلاً من النِظام السوري، ولم تعد تدخل في تفاصيل شرعية النفوذ الروسي في سورية.

من جهة أخرى، لإيران السطوة العسكرية الفعلية المُباشرة على الأرض، وبات السلوك الإيراني التنظيمي في إستراتيجيته السورية شبه مُطابقٍ لما تتبعه في العراق. فالجهد الاستخباري العسكري الإيراني كان يقود عشرات فرق الميليشيات على الأرض، المُتحدرة من عدد من الدول، وبعقيدة شيعية طائفية موالية لإيران. وفوق ذلك باتت طهران حازمة في تشكيل «حرسٍ ثوري» سوري موالٍ لها، عبر تشكيل فرقٍ تابعة للجيش السوري مؤلفة من قطاعات عسكرية أهلية، مُدربة عقائدياً على الدفاع المُستميت عن النفوذ الإيراني في سورية.

يوازي هذين العاملين القابلية الهائلة لتُركيا للدخول في صفقات جانبية، وذلك تأميناً لمسألة أمنها القومي الوحيدة في سورية، المُتمثلة في عدم حصول الأكراد على مناطق نفوذ كيانية، أياً كانت الأثمان والتنازلات الأخرى في سبيل ذلك. لقد أثبتت معركة حلب قُدرة الجانب التُركي على التخلي عن كل الشعارات والخطابات السياسية، التي هي في سبيل الترويج الداخلي فحسب. والدخول في مساومات تكتيكية حتى مع أكثر من كانت تعتبرهم خصومها.

وفوق كُل ذلك عدم قُدرة المجتمع الدولي على اجتراح حلولٍ غير تقليدية وفرضها على القوى المُتصارعة. في ظل غياب الإرادة السياسية للحسم، فإن آليات مجلس الأمن والأمم المُتحدة والاجتماعات الثنائية، اثبتت في معركة حلب عدم قدرتها على تغيير أي من المُجريات، أياً كانت الأثمان الفظيعة التي قد تلحق بالبنية التحتية ومنظومة حقوق الإنسان.

كذلك فإن التوازن العسكري بين النظام السوري ومُعارضيه العسكريين غير متكافئ من دون دعمٍ إقليمي مُستمر لهذه القوى المُعارضة. فالتشكيلات العسكرية المعارضة، وعلى رغم وحدتها الداخلية أثناء معركة حلب، لم تستطع أن تصمد في وجه ضراوة الهجوم المُنظم من قِبل النِظام السوري وحُلفائه العسكريين، في ظِل انقطاع الدعم التُركي والإقليمي المُباشر، ما يعني أن كل المناطق المُتبقية تحت سيطرة قوى المعارضة، يُمكن أن تشهد المصير نفسه، إذا حدث توافق بين النِظام السوري والقوى الإقليمية.

وخاتمة ذلك الإيمان العميق بعدم وجود إستراتيجية للمساومة السياسية لدى النِظام السوري، إنما فكرة «القضم الجغرافي» هي الوحيدة التي تُسيطر على مخيلته في شأن التعامل مع المناطق الخارجة عن سيطرته. فإما أن تحدث مساومات داخلية تخرج بموجبها القوى المُسلحة من المناطق المُحاصرة نحو مُحافظة إدلب، كما جرى في بلدات داريا والجديدة في الريف الدمشقي، أو عبر القصف والهجوم العسكري المُركز، كما جرى في مناطق شرق حلب. أي بالمُحصلة فإن النِظام السوري لا يقبل بفكرة مناطق النفوذ مع وقفٍ مُتبادل للأعمال العسكرية.

كُل ذلك لم يحصل ويتثبت بعبثية ووفق المُعادلات الداخلية السورية، بل نتج من سلسلة طويلة من السلوكيات والإستراتيجيات السياسية لم تكن تُريد للمسألة السورية أن تنتهي. وهي بالمُحصلة وصلت إلى ما يستطيع أن يسير بالمسألة السورية إلى عدم الحل من دون أية أرادات أو سلوكيات أو إستراتيجيات دولية، حيث بات «عُقمُ الحل» هو الدينامية الأعمق للمسألة السورية، وباتت الحيرة الإقليمية والدولية في إيجاد حلٍ للمسألة السورية حقيقة بذاتها.

صاحب الشرعية الدولية – روسيا - هو أكثر دول العالم مُناهضة لقيّم الحرية وحقوق الإنسان، أي آخر الذين يستطيعون توفير جوٍ معقول لحل مسألة ما جوهرها هو السعي إلى تحقيق قيم الحُرية وحقوق الإنسان. الأمر نفسه تُرك للاعب الإقليمي الأكثر عدوانية في إستراتيجيته البعيدة المدى، إيران.

في هذا السياق انحازت تركيا لنزعتها القومية، وبات حرمان الأكُراد السوريين مسألتها الوحيدة، وتركت كُل الأوهام التي باعتها للسوريين. وهو ما أنتج ببساطة مناعة داخلية للنِظام السوري، مُضافة لمناعته الأساسية برفض المساومة والحل. وحيث أن ديناميكية الهلع العالمي من اللاجئين السوريين، الذين كانوا أساس صعود اليمين الأوروبي والأميركي، دفعت العالم الى تفضيل «حلول» وسياسات كالتي تطرحها روسيا بوتين، وترى أن نظام بشار الأسد وأشباهه وحدهم يستطيعون إدارة وضبط شعوبٍ ليست في المقام الأول من الحضارة الإنسانية.

باتت المسألة السورية عقيمة تماماً تجاه أي حلٍ، وهل من عُقمٍ يساوي أن يقتل نِظامٌ ما نصف مليون إنسانٍ، ويخشى كُل العالم حتى من تحويله إلى المحكمة، أو المناداة بذلك!.

*كاتب سوري.

وسوم: العدد 708