إسلام حمزة

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

مرّ أبو جهل برسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصفا فآذاه وشتمه، ونال منه بعضَ ما يكره من العَيب لدينه،  والتضعيفِ لأمره ،فلم يكلمْه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، ومولاةٌ لعبد الله بن جُدعان في مسكن لها تسمع ذلك. ثم انصرف عنه فعمِد إلى نادٍ من قريش عند الكعبة ، فجلس معهم.

فلم يلبثْ حمزةُ بن عبد المُطّلبِ رضي الله عنه أن أقبل متوشحاً قوسه ( متقلده) راجعاً من قنْصٍ له ، وكان صاحبَ قنصٍ يرميه ويخرج له، وكان إذا فعل ذلك لم يمرّ على نادٍ من قريش إلا وقف وسلّم وتحدّث معه، وكان أعزَّ فتىً في قريش واشدَّهُ شكيمةً ، فلما مرّ بالمولاة وقد رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته قالت له: يا أبا عُمارةَ ، لو رأيتَ ما لقيَ ابنُ أخيك آنفاً من أبي الحكَمِ بن هشامٍ ، وجده ههنا جالساً فآذاه وسبّه ، وبلغ منه ما يكرهُ ، ثم انصرف ولم يكلمْه ابنُ أخيكَ محمّدٌ.

فاحتملَ حمزةَ الغضبُ لِما أراد اللهُ من كرامتِه فخرج يسعى ، ولم يقف على أحد، مُعِدّاً لأبي جهل إذا لقيه أم يُوقعَ به، فلمّا دخل المسجدَ نظر إليه جالساً في القوم، فأقبل نحوه ، حتى إذا قام على رأسه رفع القوسَ فضربه بها فشجّه شجّةً منكَرةً ، ثم قال : اتشتُمه وأنا على دينه أقول ما يقول؟ فرُدّ عليّ إن استطعتَ.

فقامت رجالٌ من بني مخزومٍ إلى حمزة لينصُروا أبا جهلٍ، فقال أبو جهلٍ : دعوا أبا عُمارةُ فإني – واللهِ سببتُ ابنَ أخيه سبّاً قبيحاً .

وتمّ حمزةُ على إسلامه ، فلمّا أسلم حمزةُ عرفَتْ قريشٌ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قد عزّ وامتنع، وأن حمزة سيكون معه  مؤيّداً وناصراً ، فكفّوا عن بعض ما كانوا ينالون منه.

إضاءة :

((قد يسأل أحدهم : لِمَاذا لمْ يردّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم؟))

نقول :

1- قد يكون السكوت في كثير من الأحيان أكبر من الردّ وأكثر إيلاماً ، يقول الشاعر :

    إذا نطق السفيه فلا تجبْهُ*** فخير من إجابته السكوتُ

2- إن الآية الكريمة تقول في مدح المؤمنين – والرسول سيدهم – " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا : سلاماً ". فالتغاضي عن سفه السافهين من سمة الأذكياء والرجال المحترمين.

3- إن السفيه يزداد سفهاً إذا ردَدْتَ عليه ، فيشتفي منك لانه وصل إلى هدفه حين استفزّك ، وعدم الردّ عليه إفشال لهدفه.

4- إذا ردَدْ عليه فقد نزلتَ إلى مستواه ، فإذا رغبتَ أن تدعو الناس إلى الحق – وأنت داعية – لم يستمعوا لك لأنك فقدْتَ سًمُوّ الداعين من حلم وسعة صدر ونضج عقل .

5- عدم الردّ على السفهاء يجعل الحاضرين ينحازون إليك ويتعاطفون معك كما فعلتْ مولاة ابن جُدعان ، فقد تألمت من سفاهة ابي جعل وانتظرت مقدم حمزة تستفزّه أن يدافع عن ابن أخيه.

6- لو أن النبي صلى الله عليه وسلم ردّ على أبي جهل لما انتخى حمزة وغضب هذا الغضب الشديد ، وقد يقول : لماذا أتدخّل فأفسد ما بيني وبين أبي الحكم ، وابن أخي أخذ حقه بيديه؟

7- سورة غضب حمزة جعلته يتحدّى الحاضرين ويعلن إسلامه ( ولمّا يُسلم ) ، ولمّا رأى نفسه اعلن كلمة الإسلام ثبت عليها ، فأكرمه الله ثم نفع به المسلمين فقويت شوكتهم.

8- كان أبو جهل سيداً في قومه بل كان سيد مكة غير المتوّج ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم خبير بالرجال ، وكان يطمع أن يكون هذا الرجل في قابل الايام مسلماً يعتز الإسلام به ويمتنع ، فقد دعا الحبيب صلى الله عليه وسلم " اللهم أعزّ الإسلام بأحد العُمَرَين " وكان يقصده وابن أخته عمر بن الخطاب ، فأراد الله تعالى الكرامة للفاروق عمر ، ومنعها عمروَ بنَ هشام ( أبا جهل) .

9- لا بد من وصف المرء بما فيه من حكمة ولو كان عدواً لنا ، فالله تعالى يقول " ولا يَجرِمَنَّكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا ، اعدِلوا هو أقرب للتقوى ) فمن دلائل زعامة أبي جهل أنه لم يسمح لرجالٍ من بني مخزوم أن ينصروه حين شجّه حمزة فقال:: دعوا أبا عُمارةُ فإني – واللهِ سببتُ ابنَ أخيه سبّاً قبيحاً . فلو انتهى الأمر بضرب حمزة أو جرحه لرضي أن ينصره رجال عشيرته لكنّه خاف أن تتسع دائرة الثأر لتصل إلى نهاية غير محمودة  يأباها ،

    أ-  منها أن يستحرَّ القتال بين بني هاشم وبني مخزوم وتنتشر النار بين قبائل قريش فيصعب إخمادُها ، فيخسر زعامته بينهم ،

   ب- أنْ تتسع دائرة موالاة القبائل للطرفين ، فترى بعضها ينحاز لبني مخزوم وبعضها لبني هاشم وبني عبد مناف قد يُدخل التحالُف كثيراً من الناس في الإسلام ، وهذا ما يخشاه ابو جهل ، فرضي أن يُشجّ على أن تتسع ساحة العداوة في أنحاء مكة وينتشر الإسلام فترتفع أسهم عدوّه محمّد بن عبد الله .

  ج- وكلمةُ ابي جهلٍ: ( دعوا أبا عُمارة – فإني والله سببتُ ابن أخيه سبّاً قبيحاً ) يمنع الحرج عن بني مخزوم أن ينصروه ، ويدفن المسألة في أرضها ، ويمنع ذيولها أن تمتَدَّ ، ويوحي لحمزة أنْ لا عداوة بينهما ولا ضغينة .

10- إن إسلام الرجل ذي الشوكة ( القوي المهيب) يقوّي الموقف فاسلم رجلان رائعان في وقت قريب هما الفاروق عمر بن الخطاب ، واسدُ رسول الله حمزة بن عبد المطلب ، فكان إسلامهما نصراً للإسلام والمسلمين ، وخزياً بيّناً لأعدائهم .