حق الشورى في إدارة الحكم
مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات
تتجه الدول إلى أخذ بمفهوم "الإدارة بالمشاركة" في مجال إدارة شؤون الدولة، ليس في التشاور والمشاركة في اختيار القيادات السياسية والإدارية التي تتبوأ المناصب العليا في البلاد وحسب، بل في التشاور والمشاركة في رسم السياسات العامة، والمشاركة في تنفيذ قرارات السياسة العامة ومراقبتها، وقياس نتائجها وآثارها المجتمعية وتقييمها، سواء على مستوى التنمية البشرية أو الاقتصادية أو التعليمية أو الصحية أو الخدمية...
وتعد "الشورى" في إدارة الحكم، المفهوم الأوسع والأكثر انسجاما وتحقيقا لمفهوم "الإدارة بالمشاركة" وهي تعني "تقليب الآراء المختلفة ووجهات النظر المطروحة في قضية من القضايا واختبارها من أصحاب العقول والأفهام حتى يتوصل إلى الصواب منها أو إلى أصوبها وأحسنها ليعمل به لكي تتحقق أحسن النتائج".
أو هي "أخْذ آراء الآخرين حول مسألةٍ معينةٍ للوصول إلى الرأي الصائِب أو الأقرب إلى الصَّواب وتحقيق رضا المُعظَم"، ويتّصف أهل الشورى بعدّة صفاتٍ تؤهلهم للمشاورة مثل أن يكونوا أصحاب خبرةٍ وفطنةٍ، وعدلٍ ورجاحة عقلٍ بعيدين عن الاتصاف بالتحيّز والتمييز، كما يجب أن يكونوا ممن يَقبلون الرأي الآخر ويُقبِلون عليه.
تأتي أهمية الشورى للحد من مرض الاستبداد الذي رافق الحياة البشرية، وعطل نموها وسيرها الطبيعي بكل أنواعه السياسي، والاقتصادي والاجتماعي، ويأتي الاستبداد السياسي في مقدمة هذه الأشكال بينما تأتي الأنواع الأخرى كنتائج تشق طريقها من خلاله لتنفذ إلى بنية المجتمع بنسب طردية تتفاوت عبرها حالة استفحال المرض وخفته تبعا لميزان السلطة الحاكمة.
يقول الكواكبي ت 1320هـ إن "المستبد يتحكم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم، ويحاكمهم بهواه لا بشريعتهم ويعلم من نفسه أنه الغاصب المعتدي، فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس يسدها عن النطق بالحق، والتداعي بمطالبته، فالمستبد لا يمكن أن يكون رجل دولة، ورجل سياسة، فقط رجل لتلبية الملذات التي تعتريه".
وبناء على ذلك، أن النقيض من "حكم المستبد" هو "حكم الــشورى" أي حكم الجماعة المؤمنة بـ"الإدارة المستندة للشورى" والعارفة والمدركة لحثيات الأمور، وهو حكم يضع اللبــنات الأساسية لـحالة التوازن السياسي بين الحاكم والمحكوم، ويضمن تطبيق العدالة الاقتصادية والاجتماعية، ويعزز من فرص التقدم والنجاح...
انطلاقا من ذلك، اعتبر مبدأ الشورى كأساس للحكومة الصالحة ودعامة تتلاقى عندها سائر الرغبات والأماني، وبها يتحقق التواصل ما بين الرؤساء والمسؤولين من جهة وبين أبناء الشعب أو غالبيته من جهة ثانية، بحيث يشعر عموم المواطنين أنهم على صلةٍ مع من يقومون بتنظيمِ أمور حياتهم. فالشورى توفر الفرصة للاستماع لآراء أهل المعرفة والحكمة والخبرة، ومناقشة الآراء المطروحة لتصويب مواطن الخلل بها وتنميتها، وتتيح الفرصة لاختيار آراء واقتراحات توفر خير أكبر للمجتمع، وهي تساعد على حفظ المجتمع من السياسات والقرارات الخاطئة، وبذلك تحافظ على رضا الأغلبية العامة من الشعب.
إن الشـورى هي أحد دعائـم نظام الحكم في الإسلام بل إن الإجماع حاصل مـن الـذين كتبـوا فـي النظرية السياسية في الإسلام على أن مبدأ الشورى هو الأصل الجوهري في نظام الحكم الإسلامي والـركن الأساسي فيه بالإضافة إلى مبدأ المساواة ومبدأ العدالة. وبهذا يكون الإسلام قد دعا صراحة إلـى نظـام حكومي على خلاف المألوف في الكتب السماوية السابقة، ومن أصول هذا النظام تقييد الحاكم فـي تصـريف شؤون الدولة بالشورى. وقد كان الأمر بالشورى موجها إلى رسول الله (ص) ليكون القدوة التي يهتـدى بهـا فـي الحاضـر والمستقبل ذلك أن الرسول هو أغنى الناس عن الشورى لأنه لا ينطق عن الهوى بل هو وحي يوحى.
والشورى هي مصطلح إسلامي استمده بعض فقهاء وعلماء المسلمين من بعض آيات القرآن مثل "وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ" من سورة الشورى، للدلالة على ما اعتبروه مبدأ شرعيا من مبادئ الإسلام المتعلق بتقليب الآراء، ووجهات النظر في قضية من القضايا، أو موضوع من الموضوعات، واختبارها من أصحاب الرأي والخبرة، وصولاً إلى الصواب، وأفضل الآراء، من أجل تحقيق أحسن النتائج.
في الواقع، تعد الشورى أصلاً من الأصول الأولى للنظام السياسي الإسلامي، بل امتدَّت لتشمل كل أمور المسلمين؛ فمن المزايا الأساسية التي يتحلى بها مبدأ الشورى في الإسلام، أنه لا ينحصر في مجال معين دون غيره، ولا يختص بفئة دون أخرى، لأنه منهج حياة شامل يخص جميع مناحي الحياة، ولا يبقى حصرا على مجال معين من مجالات الحياة التي لا تحصى، كما انه منهج حياة ينبغي أن يتمسك به جميع أفراد ومكونات المجتمع. لذلك من الخطأ أن نقتصر الاستفادة من الشورى في تنظيم الحياة السياسية فحسب، إنما ينبغي الاستعانة بها في تنظيم حياتنا على نحو شامل، يبدأ من المحيط الأصغر وتنظيم شؤونه (مؤسسة الأسرة)، صعودا إلى المؤسسات الأكبر، والأكثر عدادا وتعقيدا في العلاقات الإنتاجية وسواها مثل إدارة شؤون الحكم.
يرى الإمام السيد محمد الشيرازي أن "كل شيء يرتبط بشؤون الأمـة لابـدّ مـن الاستشـارة فيه سواء في أصل الجعل أو تابعه، مثل: المدارس، والجامعات، والمستشفيات، والمطارات، والمعامل الكبيرة، وما أشبه ذلك، فإنّها تفتح وتعمل بمال الأمة ومقدراتها، وكذلك حال الوظائف من الرئاسة، إلى الوزارة، إلى المجلسين، إلى المحافظين، إلى مدراء النواحي وهكذا، وذلك لجهتين:
1- أنّها تصرُّف بمال الأمة، سواء أموال الخمس والزكاة، أو المعادن، أو ما أشبه، ولا يحق لأحدٍ أن يتصرف في مال غيره إلاّ بأذنه.
2- أنّها تصرّف في كيان الأمة، ولا يحق لأحد أن يتصرّف في غيره إلاّ بأذنه، ومن الواضح أنّ رضى الأمة وإجازتهم، فـي طول رضى الله سبحانه وإجازته؛ فاللازم أن يكون التصرّف حسب الرضائين.
والاستشارة عند الإمام الشيرازي لا تختص على الرجال دون النساء، بل (إنّ النساء أيـضاً لهن الحق في ذلك إذا توفر الشرط، أي كان شيء من المال مرتبطاً بهنّ، أو كان شيء من التصرف مرتبطاً بهن). ولا على الكبار دون الصغار بل (وكذلك حال الأطفال، إلا انّ الإجازة بيد أوليائهم الشرعيين ـ حسب ما قرر في الفقه) فإذا طبِّقت الاستشارة في كل هذه الشؤون، من القرية إلى المدينة، ومن اتحاد الطلبة إلى أكبر إدارة للشؤون الاجتماعية، تظهر الكفاءات، وتتقدم عجلة الحياة إلى الأمام بسرعة كبيرة.
نخلص مما تقدم، الآتي:
1- أن الشورى حق للأمة والجماعة والأفراد من جهة، وهي واجب عليهم، وعلى من يتولون إدارة شؤونهم السياسية والإدارية والاقتصادية وغيرها من جهة ثانية.
2- لا يحق لأي كان رئيسا أو قائدا أو مديرا أن يتصرف في شأن من شؤون الأفراد أو الجماعات إلا أن يحصل على تفويض منهم مباشر أو غير مباشر، لأنهم -في الواقع -هم من يمتلكون حق التصرف، ولا يجوز التصرف من الغير إلا بتفويض منهم.
3- في الشورى حفظ المجتمع من القرارات الخاطئة، فالمشورة توفر الفرصة للاستماع لآراء أهل المعرفة والحكمة والخبرة، ومناقشة الآراء المطروحة لتصويب مواطن الخلل بها وتنميتها، وتتيح الفرصة لاختيار آراء واقتراحات توفر خير أكبر للمجتمع.
4- في الشورى مكافحه نزعات التطرف والعنف، حيث تفسح الشورى مجالا خصبا لمناقشة آراء أهل التطرف والعنف الذين يتصورون دائماً أن آراءهم هي الآراء النهاية في الموضوع، ويعزفون بطبعهم عن التعرف على آراء الآخرين. ولكن بجرِّ هؤلاء إلى مجالات الشورى ومشاركة الآخرين لهم في الرأي تتضح لهم القيمة المرجوحة لأفكارهم التي يقدسونها.
5- إنّ الشورى مبدأ إسلامي عام لا يختصّ فقط في المجال السياسي بل حتى في الحياة الأسرية والاجتماعية.
وسوم: العدد 710