كلب عساف!

عبد الرحمن منيف ( 1933 - 2004) روائي يساري ينتمي إلى قرية قصيبا شمال مدينة بريدة بمنطقة القصيم. عبر في رواياته العديدة عن حياة الصحراء والقحط والقمع والتعذيب، وبسبب آرائه وفكره عاش حياته منفيا في بلاد العرب والعجم حتى توفي في دمشق ودفن بها .

له رواية اسمها "النهايات" تتناول حياة قرية تقع على حافة الصحراء كما يقول، وقد أصابها القحط والمحل والجدب بسبب انقطاع المطر، وفي هذه المحنة لم يجد أهل القرية (وتسمى  الطيبة) من يساعدهم ويمد يد العون إليهم من أهل المدن التي هاجر إليها العديد من أبناء الطيبة وعاشوا في نعيمها. عسّاف وحده الذي يوصم بالهطل أو الهبل هو الذي يمد يد المساعدة لأهل قريته، فيذهب إلى أماكن الصيد، ويوزع ما يصطاده على العائلات الأكثر احتياجا، ويظل يمارس دوره حتى يموت مع كلبه في إحدى رحلات الصيد بسبب عاصفة عاتية دفنته في الرمال، مع كلبه الذي انكفأ على وجه صاحبه ليحميه من النسور الجارحة فكان أن قتلته ليلحق به!

الروائي يقارن بين ما فعله عساف لقومه مع تحقيرهم له، وطبقات المجتمع الغنية في المدن التي لا تبالي بإصلاح الأحوال، ولا مدَ يد العون للقرية الفقيرة!

تذكرت الرواية وشخصيتها الرئيسة حين جاءت الأخبار بأن شخصا من الإمارات أقام مولا ضخما (مركزا للتسوق والترفيه) تكلف أكثر من 700 مليون دولار (حوالي 12 مليار جنيه مصري) في منطقة تقرب من مساكن عثمان التي تأثرت بما عرف بسقوط صخرة الدويقة! يقع المشروع العملاق على مساحة 165 ألف متر. ويضم عشرات المطاعم، وقاعات السينما، ومئات المتاجر العالمية، ليصبح من أكبر المراكز في الشرق الأوسط.

الجديد في الأمر أن هذا المول الاستهلاكي يضم أول منطقة للتزلج على الجليد في قارة أفريقيا! والمفارقة أنه مع ارتفاع أسعار زيارة المنطقة؛ فإن شباك التذاكر شهد زحاما شديدا من الزوار الأثرياء في الأيام الماضية، لممارسة هواية التزلج على الجليد لأول مرة داخل مصر، حيث تتراوح الأسعار بين 300 و955 جنيها، ( ثلاثمائة جنيه هي معاش السادات وتعيش عليها أسرة مصرية فقيرة، 955 جنيها أكثر قليلا من نصف مرتب موظف كبير يعول أسرة فيها أولاد يتعلمون ويصرفون). يدخل في مجال الطرافة المضحكة المبكية أن المول أعلن عن جلب مجموعة من البطاريق قريبا، وإمكانية "مقابلة البطاريق، مقابل تذاكر تتراوح بين 450 و850 جنيها"!

في مصر مولات عديدة تخاطب الطبقة التي كانت متوسطة وهي موجودة على الطريق الزراعي أو في بعض أطراف المدن ، ولكن لا يذهب إليها إلا من يمتلكون الفلوس والسيارات التي تحمل مشترياتهم. الفقراء والطبقة التي كانت متوسطة لا تقترب منها، فقد اعتصرهم الانقلاب العسكري، وجعلهم يتنازلون عن معظم  الضرورات الأساسية، وباتوا يبحثون عن جمعيات استهلاكية متواضعة أو سيارات القوات المسلحة التي تبيع بعض السلع المناسبة إلى حد ما.

حين يأتي مول الأخ العربي الذي يكلفه مليارات، ويعلن أنه في طريقه إلى إقامة مولات أخرى في مصر، يتزاحم عليها الأغنياء والأثرياء الذي يدفعون ما يقرب من ألف جنيه للتزلج أو مشاهدة السيد البطريق، فهناك خلل كبير في الواقع المصري . بعض الناس الذين مازالوا على الوفاء لتراثهم الشعبي يقولون إن من يحصل على قرش بعرق جبينه لا ينفقه في الرفاهية التي لا ضرورة لها، والقرش الحلال لا يذهب سدى في التزلج الذي لا يعرف معناه المصريون ولا مشاهدة البطريق الذي يرونه  على شاشة التلفزيون أو الحاسوب !

ولكن المسئول عن المول يفاجئنا في تصريحات لوكالة رويترز، بالقول إن "تمويل المشروع جزء منه ذاتي وجزء آخر من البنوك المصرية"، متوقعا أن تسترد الشركة   التكلفة الاستثمارية الضخمة في مدة ثماني إلى تسع سنوات. وأشار إلى أن "المول" يتبع النموذج الناجح "لمول الإمارات" في دبي، وأنه سيوفر 41 ألف فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة في الاقتصاد المصري.

إذا المسألة مجرد شطارة من صاحب المول. يأتي بمبلغ محدود، ويستكمل الباقي من أموال المصريين المودعة في البنوك! أي إن البنوك المصرية تستطيع أن تستثمر وتحل عديدا من مشكلات البلد الجريح المكلوم الذي لم يعرف الفرح على يد العسكر الانقلابيين الدمويين الفاشيين.

تصورت بسذاجة منقطعة النظير أن يكون استثمار المبلغ الضخم والمبالغ الأخرى المتوقع إنفاقها على إنشاء المولات في طول مصر وعرضها من أجل تشغيل آلاف المصانع المعطلة كليا أو جزئيا وتوفير مئات الآلاف من الفرص للعمالة المصرية، أو توجيهها نحو النهوض بالزراعة ولوازمها من سماد ومبيدات وآلات زراعية، أو إنشاء مصانع للأدوية غير ربحية لعلاج المصريين الذين تكاثرت أمراضهم وإصاباتهم أو دعم المستشفيات المجانية تخفيفا عن كاهل الفقراء والمحرومين والبائسين وتوفير الدولارات التي يتم بها الاستيراد .. ولكن الاستثمار يتم لصالح طبقة لا تملك إلا قيم الاستهلاك والمظهرية الفارغة. أناس لم يتعبوا غالبا في الحصول على النقود التي تملأ جيوبهم وحساباتهم بغير حصر ولا عد، ولذا يتزاحمون على أبواب المول ليمارسوا التزلج الذي لا يعرفه المصريون ، ويشاهدوا السيد البطريق الذي لم يعرفوه إلا من خلال الصورة !

إذا سألت مواطنا في الدويقة أو مساكن عثمان عن التزلج أو البطريق لن يجيبك.

الفقراء في مصر وهم أغلبية الشعب التعيس لا يعرفون كما قلت ما هو التزلج وهم بلا ثمن ولا قيمة، ولكن السادة اليساريين المصريين الذين صدعونا بالكلام عن حقوق العمال والفلاحين والكادحين والشغيلة وصراع الطبقات لم يهتموا بالأمر ولم يكتبوا عنه في مقالاتهم ولم يتكلموا في قنواتهم حول التزلج والبطريق، ومنظومة الخبز والتموين التي يقلصها النظام العسكري ويسعى إلى إلغائها تماما ليموت الفقراء جوعا وقهرا. إنهم مشغولون بمسح البيادة والدفاع عنها وتبرير اعتقال أكثر من ستين ألفا من الأبرياء الشرفاء، ومديح أمن الدولة وزيارة قائد الانقلاب له، وإهانة الإسلام والمسلمين على مدار الساعة، والإشادة بالبكباشي المهزوم دائما، ونسيان تعذيبه لهم لأنه أعطاهم قبلة الحياة والثراء وجعلهم باشوات في الصحافة والإعلام والثقافة والسينما والتعليم والمجالس الشكلية والأحزاب الورقية والتنظيمات السرية وغيرها. ليتهم تذكروا مقولة منيف في "شرق المتوسط": (نحن الذين خلقنا الجلادين ونحن الذين سمحنا باستمرار السجون لقد فعلنا ذلك من خلال تساهلنا وتنازلنا عن حقوقِنا، ومن خلال استسلامنا لمجموعة من الأوهامِ والأصنام، ثم لما أصبحنا الضحايا لم نعد نعرف كيف نتعامل مع هذهِ الحالة).

لو تذكروا لكان لهم بعض الاحترام، ولكنهم آثروا مسح البيادة، فكان عساف وكلبه أكثر شرفا ووفاء ونبلا !  

الله مولانا. اللهم فرج كرب المظلومين. اللهم عليك بالظالمين وأعوانهم! 

وسوم: العدد 711