العمل الإسلامي وتزكية الأنفس
لم يكن عبثاً أن يكتب علماء الأمة سلفاً وخلفاً، هذا الكم الكبير، من الأسفار التي تعنى بقضية تزكية الأنفس، وفقه القلوب، وعلم السلوك، والتحلي بالفضائل، والتخلي عن الرذائل، والاعتناء بمنظومة الأخلاق، التي يجب على المسلم، أن يمتثلها في سلوكه، ويلتزم بها ظاهراً وباطناً .
بل كان هذا الأمر نابعاً، من ضرورة شرعية، وحاجة واقعية، إنه معقد الأمل في الفلاح، وللمسلم خير زاد، وللداعية أعظم سلاح، ولأنه لا نجاة في الدنيا والأخرى إلا به .
لذا تجد الإمام ابن حزم كتب في هذا، ومثله الإمام ابن تيمية، وكذا الإمام ابن القيم في سفره النفيس [ مدارج السالكين ]، وهو كتاب موسوعي، في مجال التزكية، فريد في منهجه، عظيم في اختياراته، دقيق في توصيفاته، يمتاز بالتدقيق والتحقيق، والعناية بمنهج السلف الصالح، في هذا الميدان الخصب، والباب الرحب، وقد قام الأستاذ العزي باختصاره، والكتاب مطبوع متداول . ولعل كتاب الإمام الغزالي [ إحياء علوم الدين ] من أنفس الكتب التي اهتمت بهذا الجانب، وبغض النظر عن مادحيه وناقديه، فإنه يبقى علامة فارقة في عالم ما نذكر، وحتى يخرج الناس من دائرة الجدل في معادلة المدح والذم للكتاب، قام جماعات من العلماء بأخذ زبدة ما في الكتاب من معاني الخير، ضمن نظرية تختلف من مدرسة إلى أخرى، إثباتاً لهذا المعنى الذي ندندن حوله .
فالإمام ابن الجوزي اختصره، وجاء من بعده الإمام ابن قدامة ليختصر المختصر، بكتاب نفيس يستحق أن يكون منهاجاً في الباب، وأن يعتمد كتاب درس في هذا الموضوع، وسمى كتابه [ مختصر منهاج القاصدين ] وهو كتاب مطبوع متداول . ومن الجهود القيمة في استخلاص النافع المركز من [ الإحياء ] اختصار العلامة جمال الدين القاسمي ، الموسوم ب [ سمير المؤمنين ].
وهكذا من جيل إلى جيل ، يعتنى بالكتاب، حتى بالغ من بالغ بقوله : من لم يقرأ الإحياء ، فليس من الأحياء، إشارة إلى معنى، أهمية تزكية الأنفس، في حياة المسلمين عامة، وطلاب العلم والدعاة والعاملين للإسلام خاصة، فممن نهض بخدمة الكتاب، الشيخ سعيد حوى، فأخذ عصارة ما في الكتاب من خير، وما شعر بأنه يغطي هذا الجانب، للعاملين للإسلام، وأضاف له بعض الإضافات، التي تضفي عليه صفة المعاصرة، جمعاً بينها وبين ما في كتب التراث من نوادر الكلم الطيب في هذا الباب، وسمى كتابه هذا [ المستخلص في تزكية الأنفس ] .
- أهمية التزكية في حياة الدعاة :
تزكية الأنفس، لها أهمية بالغة في حياة المسلم عامة، والدعاة إلى الله تعالى، والعاملين للإسلام خاصة ، ذلك أنها من سبل النجاة التي لا يمكن تحصيل الفلاح إلا بها، وتجعل المسلم على جادة الصواب، وتسوقه نحو سبل الفوز، وتبعده عن طرق الغواية، وترشده إلى ما فيه صلاحه، وتحذره من أسباب الضياع، فالذين يقولون ما لا يفعلون، هم من أهل النار، وأهل الأهواء هالكون، ومن فاتهم التحقق بمقام الإخلاص، لا يقبل منهم صغير ولا كبير من الأعمال، ومن في قلبه مرض، يكون على خطر عظيم، وهكذا ، لذا كان من شأن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لما لأجله بعث، أن يزكي الأنفس، حتى تستقيم على منهاج الإيمان الحق .
قال تعالى {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 151] .. ثمَّ قال تعالى {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164] .. وقال عزَّ وجلَّ {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2]
وكان من ثمار تربية رسول الله – صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم – أن وجد ذلك الجيل الرباني الفريد، جيل الصحابة الكرام – رضي الله تعالى عنهم جميعاً – الذين حازوا رتب التقدم في الخير، وارتقوا في مراتب البناء، حتى خلصت نفوسهم، من حظوظ نفوسهم، بما لا مثيل له من جيل، من أجيال الحياة، ويا له من جيل ! متكامل الجوانب، عظيم المعارف والمسالك، استطاع أن يغير وجه الدنيا، ويرسم ملامح تاريخ خالد، ويستشرف مستقبلاً زاهراً .
ومن خصائص هذا الجيل أنه : - يحمل إيماناً عميقاً، وعلماً واسعاً، وفهماً دقيقاً، وتربية ربانية، يعجز المرء في وصف حالها ، فالمعاني الربانية التزكوية، ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها بحال، لأصحاب المشروع الإسلامي، والذين يتصدرون لخدمة هذا الدين .
كان عبد الله بن المبارك يقول "من حمل القرآن ثمَّ مال بقلبه إلى الدنيا فقد اتخذ آيات الله هزوًا .. وإذا عصى حامل القرآن ربَّه ناداه القرآن في جوفه: ـ والله ـ ما لهذا حُمِلت، أين مواعظي وزواجري؟ وكل حرف منى يناديك ويقول: لا تعصِ ربَّك".
وكان الإمام أحمد بن حنبل إذا رأى طالب العلم لا يقوم من الليل يكف عن تعليمه، وقد بات عنده أبو عصمة ليلة من الليالي، فوضع له الإمام ماء للوضوء، ثمَّ جاءه قبل أن يؤذن للصبح فوجده نائماً، والماء بحاله فأيقظه .
وقال: لم جئت يا أبا عصمة؟، فقال: جئت أطلب الحديث .
قال : كيف تطلب الحديث وليس لك تهجد في الليل ؟! .. اذهب من حيث جئت.
وكان الإمام الشافعي يقول "ينبغي للعالم أن يكون له خبيئة من عمل صالح فيما بينه وبين الله تعالى، فإن كل ما ظهر للناس من علم أو عمل قليل النفع في الآخرة، وما رؤى أحدٌ في منامه فقال: غفر الله لي بعلمي إلا قليلٌ من الناس" [مقدمة المجموع للنووي]
- جوانب النقص التي تحتاج إلى سد الخلل :
في غمرة الانهماك في العمل العام، والعمل السياسي، على وجه الخصوص، ينغمس – أحياناً – أبناء الدعوة، والعمل الإسلامي، في هذا الجانب، انغماساً شديداً، ينسيهم الواجبات الأخرى التي عليهم أن يقوموا بها، وهنا يحدث نوع من الخلل ، الذي يفقد أبناء الحركة خاصية التوازن ، التي تعتبر سمة أساسية من سمات المسلم الحق، والجماعة الراشدة، فلا عاد يلتفت لصلاة جماعة، وغاب ورده القرآني أو نقص، وربما كان النقص حاداً، ولسانه لم يعد يلهج بذكر الله، وقد تفوته قراءة المأثورات وأذكار الصباح والمساء، الهلال والهلالان.
بل – في بعض الحالات - يكون هناك ما هو أدهى وأمر، حيث تعشعش الأمراض التربوية القاتلة، في قلب هذا الداعية أو ذاك، وتظهر آثارها السيئة على جوارحه وسلوكه، فصارت تظهر عليه علائم الكذب، وأصبح كثير الغيبة، وربما نخر الحسد قلبه، فبات من الكائدين لإخوانه، ومن المكثرين للنجوى في الصف، أما النميمة فمن لوازم الغفلة، وأضحى تضخم الذات عند هذا الأخ أو ذاك سمة بارزة، تظهر آثارها المرة على من حوله، من خلال نظرية ( أنا أو الطوفان ) ، أو حب أن يمدح في عمل وما لم يعمل، تقوم الدنيا ولا تقعد إذا لم يدع لحفل أو لقاء، وهكذا .
عندما تغيب التربية الأصلية، ويهمل فقه التزكية، تظهر نتوءات المرض، وتحيط بالدعوة المخاطر من كل حدب وصوب، ومن أبرز صور الظهور، ذلك التساقط المريع على طريق الدعوة والعمل الإسلامي، الذي يعمل عمله في الفساد والتخريب، فهذا يسقط على أم رأسه، مع أول فتنة دنيوية تلوح له، وذاك ينتكس انتكاسة مريعة لمجرد أن يعرض عليه منصب من المناصب، وآخر باع دينه بدنياه، لأنه كان معروفاً عنه عرض ( حب الظهور ) الذي يقصم الظهور، ويقضم ملامح الخير، وذاك الذي صار بوق شر، لاهم له إلا عداوة الحركة، والعمل الإسلامي المنظم، كما أن غياب الأخوة، وتحطم جسور الثقة، من أكبر عوامل التساقط، وحدوث الإرباك .
والأصل في فقه الدعوة، أن نقوم بإعطاء كل ذي حق حقه، بحيث أنه لا يطغى جانب على جانب، ولا يؤثر القيام بواجب على واجب آخر.
نسمع كثيراً عن ( الحوكمة ) وعن المحاسبة الإدارية، وعن المتابعة للعمل ضمن مقاييس الفعل الناجح، وهذا كلام جميل، ولكنا ننسى أحياناً محاسبة النفس وتزكيتها، ومتابعة السيرة والسلوك، والوقاية من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وهنا يكمن الخطر، ويكون الزلل .
قال ابن القيم: (فإن زكاة النفس وطهارتها موقوف على محاسبتها، فلا تزكو ولا تطهر ولا تصلح ألبتة إلا بمحاسبتها..) إلى أن قال: (فبمحاسبتها يَطَّلِعُ على عيوبها ونقائصها؛ فيمكنه السعي في إصلاحها)..
من هنا على الحركة الإسلامية، أن تقوم بواجب العناية بجانب ( تزكية الأنفس ) من خلال منهج رائع، وربانيين يقومون على هذا الشأن، حتى يكون أبناء الحركة وجيلها الرباني المنشود، الذي ينادي بحق ( الله غايتنا )، من الذين يعيشون معاني الذكر والشكر والإخلاص، والتفكر والصدق، والصفاء والنقاء، والأخوة، والزهد بمعناه الصحيح، والعيش في ظلال تذكر الموت والدار الآخرة، حتى يكون عندنا القائد الذي يعبد الله، لا الذي يعبد ذاته، والسياسي الرباني، الذي لا يغفل عن ذكر الله، والعامل في خدمة الحياة، بلا آفات لسان، والداعية الذي عاش معاني الأخوة، وفاحت طيب أخباره في تجليات معانيها، والحركي الذي لا يتطلع لجاه، ولا يبحث عن منصب، ولا يسيل لعابه من أجل لعاعات الدنيا ومفاتنها، وفي مثل هذه الأجواء الإيمانية، يتكون الجيل المنشود في النصر، وصناعة الحياة، على قيم الرشد ، وتكون التربية الشاملة، أولوية في كل زمان ومكان، وهي المقدمة الصالحة، لصلاح ما بعدها.
وسوم: العدد 715