حضارتنا روح وجسد
لماذا يُصرُّ بعضنا على رفع راية عربية تُولي ظهرها للإسلام؟ ولماذا يُصرُّ البعض الآخر على رفع راية إسلامية تتنكّر للعروبة؟ لماذا تَرِد هذه الحتمية التي تقضي بفصل مكونات ذلك المزيج؟ ولماذا نُخيَّرُ: إما الإسلام أو العروبة؟
لقد كانت العلاقة بين الإسلام والعروبة منذ فجر الرسالة، بعيدة عن التعقيدات، والتمازج بينهما واضح في حسِّ كل عربي انتسب إلى هذا الدين، ولم تشهد الأمة ذلك الفصام النكد إلا في العصر الحديث، بين فريق يرى أن الدين عارضٌ في الحياة العربية، فلا ينبغي الالتفاف حول رايته، وبين فريق آخر يرى أن الاعتزاز بالعروبة أمر يقدح في عقيدة المسلم، والحق دائما وسطٌ بين طرفين.
ربما يجدر بنا عند تحرير العلاقة بين الإسلام والعروبة، أن نرجع إلى عهد الحياة العربية قبل نزول الرسالة، لنتساءل: هل كانت مصادفة أن تتنزل الرسالة في أرض العرب؟
وبالنظر إلى واقع العرب ساعتها، سنجد أنها البقعة الأنسب لأن تكون الحاضنة الأولى لهذا الدين، لوقوعها بعيدا عن مرمى تأثير الحضارات والفلسفات الشرقية والغربية، ولكون هذه المنطقة يعيش فيها خير معادن أهل ذلك الزمان، فقد بقي فيها شيء من أثر الحنيفية السمحة، التي جاء بها نبي الله إبراهيم، وبقية من الإطار الأخلاقي العربي القديم، فعلى الرغم من الانحراف العقدي والسلوكي الذي أصاب العرب، إلا أنهم كانوا أقرب الأمم إلى الفطرة السليمة.
لقد كان العرب قبل الإسلام – على الرغم من حياة الوثنية وفشُوِّ البغْي والفحشاء – يتمسكون بمبادئ وأخلاقيات ليست – في مجملها – لغيرهم من الأمم الأخرى، من الشهامة والمروءة والكرم والشجاعة والوفاء بالوعد وغيرها، ما جعل أرضهم أنسب البقاع لتنزُّل الوحي، وكانت لهم حضارات سابقة شهد لها القرآن بالقوة، كقوم عاد، وسبأ، وهو ما يجعل العرب مؤهلين للدخول في السباق الحضاري. ولذلك يرى ابن باديس، أن «العرب مظلومون في التاريخ فإن الناس يعتقدون ويعرفون أن العرب كانوا همجا لا يصلحون لدنيا ولا دين حتى جاء الإسلام». إنما جاء الإسلام فحررهم من عبادة الأوثان وأسْر الخرافات، ونقَّح منظومتهم الأخلاقية، فهدم بعضها، وأكد على البعض الآخر وأضفى على نوره عبقا، وحمّلهم أعباء حمل رسالة عالمية، كانوا فيها المحور والمنطلق.
جمع هذا الدينُ العربَ في نظام واحد، وصاروا هم أصل الإسلام ومادته، حيث نزل القرآن بلغتهم التي أصبحت بدورها شعارا للإسلام، وأضحى العرب رمزا مُعبّرا عنه، لذا تجد التعبير النبوي عن المسلمين بلفظ العرب في غير موطن، كقول النبي صلى الله عليه وسلم في سياق الحديث عن أمارات الساعة وفتنة خروج يأجوج ومأجوج: (ويل للعرب من شر قد اقترب)، وكقوله (يا نعايا العرب، يا نعايا العرب (ثلاثا) إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية)، مع أن مقصود الخطاب عام، يدخل فيه العرب والعجم.
واستخدمه الخليفة عمر بن الخطاب أيضا، حيث قال: «قد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب (يعني: عمرو بن العاص)، فانظروا عمّا تنفرج».
وحتما لم يتبن عمر خطابا قوميا، لأن رسالة الإسلام عالمية تتجاوز الأُطر القومية والإثنية والعرقية، لكنه يعبر عن الشيء ببعضه، كالتعبير عن الصلاة بالركوع، وعن العبد بالرقبة، فالحقيقة التي لا مناص منها، أن العروبة هي جزء لا يتجزأ من الإسلام.
والذي عليه أهل السنة، أن جنس العرب خير من غيرهم، وهي حتما أفضلية تشريف، لا علاقة لها بالمنزلة عند الله تعالى، ولا يترتب عليها في الآخرة ثواب أو عقاب، ولا يلزم أن يكون كل فرد من العرب أفضل من كل فرد من غيرهم.
إن الحضارة الإسلامية كانت ذات شقين متلازمين، هما الإسلام والعروبة معا، شكّل الإسلام فيها الجوهر والعنصر الأصيل، كان هو الراية التي التف حولها العرب، فوحدّهم، ورفع بين الأنام ذكرَهم، وأصبح عماد حضارتهم، فيما شكّلت العروبة الجسد لهذه الروح (الإسلام).
وأما اللغة العربية فشأنها مع الإسلام عظيم، حيث جعل منها القرآن لغة الثقافة الإسلامية، فهي ليست لغة العرب وحدهم، وإنما لغة دين وفكر وعقيدة وثقافة، تجمع الناس على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وعرقياتهم، وما من عالِمٍ أعجميّ إلا وتراه دارسا جيدا للغة العربية، لأنها لغة القرآن.
وكما يقول الأديب الرافعي، «العربية لغة دين قائم على أصل خالد، هو القرآن الكريم»، وإنك لتعجب كيف أن كثيرا من أعلام الأدب الغربي يحتاج من يقرأ لهم إلى قاموس للترجمة، بعد أن انسحبت اللغات الأوروبية من اللغة اللاتينية إلى اللهجات القومية، فأصبحت لها لغات خاصة انقطعت عن تراثها القديم كما يرى المفكر الراحل أنور الجندي.
وفي المقابل يقرأ العرب والمسلمون أشعارا عربية من العصر الجاهلي دون الحاجة إلى ترجمة، على الرغم من مرور عشرات القرون.
لقد حافظ القرآن على اللغة العربية من الاندثار كغيرها من اللغات القديمة، لأن بقاءها مستمد من بقاء رسالة الإسلام، ولذا يقول المستشرق بول كراوس: «لا لغة عربية بدون القرآن». ونظرا لهذا الارتباط الوثيق، لم يغفل المتآمرون على الإسلام قضية تبديد معالم اللغة العربية، عن طريق معارضتها واستبدالها بالعامية في مرحلة، وفي مرحلة ثانية بمحاولات الاستبدال بالحروف اللاتينية، وفي ثالثة بتعميم اللغة الوسطى التي تجمع بين الفصحى والعامية، وفي رابعة بالتحلل من أصول اللغة وقواعدها التي صانتها.
إن العرب بحاجة إلى الإسلام، ولا نهضة لهم سوى بالارتكاز عليه، لأنه المُعبّر عن هوية العرب الثقافية، والمسألة ببساطة تتمثل في كون أي نهضة لابد لها من فكرة مركزية تنبع من هوية المجتمع وثقافته الأُم، يرى علماء الاجتماع مثل توينبي أن أنسب وأقوى صورة لها هي الدين، والإسلام هو الفكرة المركزية لأي نهضة عربية، لأنه كما قلنا يمثل هويتها الثقافية.
إن إحياء الفهم الصحيح للعلاقة بين الإسلام والعروبة يصنع أرضية مشتركة يمكن أن يقف عليها الجميع، فهو يحقق الحفاظ على الشخصية العربية في ظل الإسلام، وفي الوقت ذاته لا يخل بمعايير الانتماء الجزئي للمسلم.
وسوم: العدد 715