الإسلام في أفريقيا الحلقة (30)
عودة الحكم إلى أبي العباس
عادت الأمور إلى نصابها، وخلص الحكم لأبي العباس مجدداً، فاستعان على تدبير مصالح البلاد وشؤون الحكم بالبُصراء من أولي الرأي السديد. فصلحت الأحوال واستقامت الأمور. وكان في مقدمة من استعان بهم أبو العباس الفقيه الجليل سحنون، فقلده منصب قاضي القضاة، رغم تمنعه وكراهيته لهذا المنصب، ولم يقبلها إلا بعد أن وضع شروطاً ثقيلة على الأمير، منها إطلاق يده في الحكم على أهل بيت الملك ووزرائه وبطانته، وتنفيذ الحق فيمن أحب أو كره منهم. فقبل أبو العباس شروط سحنون بعد أن أحلفه عليها الأيمان المغلظة، فولي القضاء سنة (233هـ/847م) واستمر فيه إلى أن توفي سنة (240هـ/854م). وداوم أبو العباس فتوحاته فتكللت بالنصر والظفر في جنوب إيطاليا حتى دوخ معظم مدنه. وما زال أبو العباس محمد موفقا في جميع أعماله وحركاته في الداخل والخارج حتى لقي وجه ربه في المحرم من سنة (242هـ/856م) فكانت ولايته خمسة عشر سنة وثمانية أشهر واثني عشر يوما بالغاً من السن ست وثلاثين سنة.
وتبوأ سدة الحكم بعد أبي العباس ابنه أحمد، وكان على صغر سنه نبيلاً محمود السيرة سامي الخصال كريم الفعال رفيقاً بالناس كثير السخاء. فقد روت كتب التاريخ والتراجم أنه كان يخرج في ليالي شعبان ورمضان من كل عام من القصر القديم حتى يدخل باب الربيع إلى المسجد الجامع بالقيروان ومعه دواب موفورة بالدراهم يعطي منها الفقراء والضعفاء حاجتهم وهو ماض في الطريق، ويبعث إلى المتعففين كفايتهم إلى بيوتهم صيانة لوجوههم من لوثة السؤال. وكان أحمد يحث عامله على صقلية على الغزو ومناجزة البلاد الإيطالية، وكانت مغازي جنوده مكللة بالنصر ولم تهزم له راية.
ويعزم أحمد على الغزو بنفسه، فيأمر الأسطول بالتجهز والخروج إلى جزيرة (كريت) ويوفق في فتحها وضمها إلى ممتلكات دولته.
لقد كانت للأمير أحمد همة بإيجاد المنافع العمومية للناس كهمته بتدويخ الروم وغزوهم، فقد شيد المباني والمعالم، وخصص في ميزانية المملكة لسنة (245هـ/859م) ثلاثمئة ألف دينار - أي ما يعادل أربعة ملايين ونصف فرنك ذهباً - لإقامة المعالم وبناء المرافق التي من جملتها خزان الماء المعروف (بفسقية الأغالبة) بالقيروان. وهو صهريج متناه في الكبر مستدير الشكل بديع التنسيق يبلغ قطره (1500متر)، تنصب فيه مياه الأودية المجلوبة.. وفي وسطه صومعة مثمنة في أعلاها قصبة مفتحة على أربعة أبواب تسع أحد عشر رجلا، فإذا امتلأ الصهريج كان ذخراً لأهل المدينة أيام الجفاف. كما جدد بناء جامع عقبة بعد أن قوضه من الأساس عدا المحراب ليجعل منه تحفة فنية رائعة قل نظيرها في العالم الإسلامي. كما بنى الصهريج العجيب بالقصر الكبير، وزاد في بناء جامع الزيتونة بتونس، وبنى سور سوسة ودار إمارتها، و(قصر لمطة) وسور (صفاقس) إلى غير ذلك من المآثر الخالدة التي لا تزال شاهدة تحكي عظمة تلك الدولة.
كان الأمير أحمد عاقلاً مدبراً وسياسياً محنكاً، فقد أشرك أمراء البيت المالك في المناصب السياسية العالية ليتمرنوا على أساليب الحكم وكيفية تدبير شؤونه.
ولم يتوانى الأمير أحمد في توفير الطمأنينة والراحة والأمن والسلام والعيش الرغيد لرعيته، والرخاء والعزة والمنعة والسؤدد لدولته، إلى أن لحق بجوار ربه راضياً مرضياً في يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي القعدة من سنة (249هـ/863م) وله من العمر ثمان وعشرون سنة، وكانت أيام ولايته سبع سنين وعشرة أشهر ونصف، وكانت من أبهج أيام إفريقية وأزهاها.
وخلف أحمد في الإمارة أخوه زيادة الله الثاني.. وكان متبعا لسياسة أسلافه جاريا على عاداتهم، رؤوفا بالرعية كريم الأخلاق حليم الأمر فيهم.
ولم تطل أيام ملكه إلا سنة واحدة وسبعة أيام، فقد واتته المنية وهو في مقتبل الشباب في العشرين من ذي القعدة من سنة (250هـ/864م).
وسوم: العدد 716