دور عالم الغيب في ضبط سلوك الإنسان المؤمن في عالم الشهادة
اقتضت إرادة الله عز وجل خلق الإنسان ليختبر في عالم الشهادة ، ويحاسب ،ويجازى في عالم الغيب . وهذه الحقيقة هي السر وراء ارتباط عالمي الشهادة والغيب ببعضهما ،ذلك أن الإنسان وانطلاقا من قناعته أنه قد خلق ليختبر في حياة أولى، ويحاسب، ويجازى في حياة أخرى، يراعي في كل سلوك صادر عنه عالما مغيبا عنه . ومعلوم أنه من مقتضيات دين الإسلام الإيمان بعالم الغيب كما حدد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أجاب الملك الكريم جبريل عليه السلام عن سؤاله : ما الإيمان يا محمد ، فقال : " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره " ،هذه هي مكونات عالم الغيب المغيبة عن الإنسان، لكنها حاضرة في حياته التي يمارسها، ويخوض غمارها في عالم يشاهده . ومعلوم أن حياة البشر تختلف باعتبار وجود أو غياب عالم الغيب لديهم أو في قناعتهم ، ذلك أن الذي يعتقد ويؤمن بوجود عالم الغيب يراعي في سلوكه حقيقة خضوعه للاختبار، والمحاسبة ،والجزاء ،بينما لا يراعي ذلك من لا يعتقد ولا يؤمن بوجود عالم الغيب . ومعلوم أن خضوع الإنسان للاختبار يلزمه بأفعال وأقوال معلومة ، وتخضع تصرفاته للممنوع والمباح أو الحلال والحرام . والمؤمن بعالم الغيب ينطلق من الحقيقة التالية : وهي أن له خالقا اتصل به عبر رسائل منزلة أوكلها إلى ملائكة ورسل من البشر لتبلغ له ، وتخبره بيوم يحاسب فيه على ما اختبر فيه خلال حياته ، وأن مدار الاختبار خير وشر. وانطلاقا من هذه الحقيقة لا يمكن اعتبار عالم الغيب أمرا غائبا عن عالم الشهادة، بل هما عالمان متداخلان مع أن أحدهما مشاهد والآخر مغيب . وليس من قبيل الصدف أن يفتح الإنسان المسلم المصحف الشريف، فيجد سورة الفاتحة أو أم الكتاب تلخص له حقيقة عالم الغيب من خلال الحديث عن رب العالمين، وعن يوم الدين، وعن المنعم عليهم، والمغضوب عليهم، والضالين . فحينما يربط الإنسان المسلم بين هذه العناصر ،ينتهي إلى أنه مخلوق خلق ليختبر من طرف خالقه ،ويحاسب في يوم معلوم ليواجه إما مصير المنعم عليهم أو مصير المغضوب عليهم والضالين . ولقد افترض عليه خالقه ترديد هذه الحقيقة في صلواته اليومية ليضل على صلة بعالم الغيب ، وليأخذه في الاعتبار وهو يجتاز الاختبار يوميا في ما يفعل وما يقول . ومباشرة بعد سورة الفاتحة المتضمنة لحقيقة عالم الغيب، تأتي في ترتيب المصحف سورة البقرة التي تبدأ بتعريف رسالة الله عز وجل للبشر من خلال تنزيهها عن الريب، ووصفها بالهدى ووصف المهتدين بها بالتقوى، ووصفهم أيضا بأنهم يؤمنون بالغيب ، ويقيمون الصلاة ، ومما رزقوا ينفقون . وعند التأمل نجد أن إيمان هؤلاء بالغيب هو الذي يجعلهم من المتقين المهتدين بهدي الرسالة المنزلة عليهم فهي مصدر هدايتهم وتقواهم ، ونلاحظ أن إيمانهم بالغيب سبق إقامتهم الصلاة وإنفاقهم، الشيء الذي يعني أنهم استوعبوا حقيقة الإيمان بالغيب، وهي أنهم خلقوا ليختبروا ويحاسبوا ويجازوا على ما يفعلون من عبادات ومعاملات وما يترتب على ذلك من أفعال وأقوال . وليس من قبيل الصدف أيضا أن نجد أحاديث نبوية شريفة تتضمن العبارة الآتية : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر " وبعدها مباشرة يرد أمر أو نهي من قبيل : " فليصل رحمه " أو "فليكرم جاره " أو " فليقل خيرا أو ليصمت " فهذه سلوكات تدخل ضمن مواضيع الاختبارات التي يختبر فيها الإنسان في عالم الشهادة ،ولكنه لا يسلكها إلا بالانطلاق من إيمانه بعالم الغيب ،عالم فيه خالق خلقه ليختبره، وفيه يوم آخر سيحاسب فيه عما صدر منه من أفعال وأقوال . وإذا كانت سورة الفاتحة قد صنفت البشر إلى منعم عليهم ،ومغضوب عليهم، وضالين، فإن سورة البقرة في بدايتها قد أعادت هذا التصنيف، فوصفت المنعم عليهم بالمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويضعونه في اعتبارهم حين يتصرفون ، كما وصفت الضالين بالمختوم على قلوبهم وسمعهم والمغشية أبصارهم وهم الكافرون ، ووصفت المغضوب عليهم بمرضى القلوب وهم المنافقون.وإذا كانت أفعال الذين يؤمنون بالغيب مضبوطة بما يؤمنون به ، فإنه لا ضابط لأفعال الذين يجحدون الغيب كفارا كانوا أم منافقين، مغضوب عليهم أو ضالين . وعندما نتأمل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الآتي ندرك جيدا ضبط عالم الغيب لسلوك الإنسان ، يقول عليه الصلاة والسلام : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن ، ولا يغل أحدكم حين يغل وهو مؤمن فإياكم إياكم " لقد سرد رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث نماذج أفعال مشينة من زنى، وسرقة ،وسكر، ونهب، وغلول ، وهي أفعال تحصل من الإنسان في غياب استحضاره الحقيقة الغيبية أو انتفاء الإيمان عنه ،وهو إيمان بالغيب . وأخيرا نقول للذين يقولون دعنا من المغيبات أو الغيبيات ،وهم في خضم عالم الشهادة إنه لا مناص لكم من تلك المغيبات أوالغيبيات، و إنها ضواط لكل ما يصدر عنكم من سلوكات أفعالا وأقوالا .
وسوم: العدد 716