الإضراب العام: صوت الكادحين لاسترجاع الحقوق المستلبة

د. سامر مؤيد عبد اللطيف

مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات

 الإضراب ظاهرة معاصرة تلجأ إليها الطبقة الكادحة للمطالبة بحقوقها بوجه استغلال أصحاب العمل وتجاوزاتهم، فهو السلاح الفعال الأخير الذي تشهره هذه الطبقة في الأزمات عندما تفتقد العلاقة بين الموظفين والعمال والحكومة وأرباب لوشائج الاتفاق وتؤصد آخر الأبواب بوجه مطالب العمال والموظفين بعد أن طرقوا جميعها عبر الحوار والتفاوض مفاوضات لأمور تخص شؤون العمل ووضع العمال.

 تمتد جذور الإضرابات عميقاً في تأريخ الثورة الصناعية، بعد أن اكتسبت مجموعات العمال أهمية اكبر في الحياة الاقتصادية في ظل وجود وتنامي عدد المصانع والمناجم في البلدان التي ولجت هذه الثورة تتقدمها بريطانيا، التي بدأ استخدام كلمة الإضراب فيها عام 1768ق.م، عندما عمل بحارة في لندن على شل حركة السفن في الميناء، تعبيرا عن تأييدهم لمظاهرات انطلقت في نفس المدينة، واعتبر هذا الفعل آنذاك فعلاً غير مشروع وجدير بالذكر، بالنظر للنفوذ السياسي المؤثر الذي يملكه أصحاب العمل على مصدر القرار والقانون في هذه البلدان مقارنة بالعمال. ولم يتم انتزاع الحق في الإضراب إلا بعد نضال وتضحيات قوية من قبل العمال على الصعيد العالمي.

 والإضراب منظور له من الجانب المفاهيمي بوجهٍ عام هو "الموقف الذي يتخذه العمال بغية التوقف الجماعي عن العمل لمدة محدودة بهدف الضغط على الهيئة المستخدمة لتلبية المطالب المطروحة من طرف المضربين وهو أحد أشكال الاحتجاج السلمي وغالباً يكون الخيار الأخير لحصولهم على مطالبهم". وأما التعريف الفقهي للإضراب فيرى أنه "اتفاق عدد من العمال أو الموظفين على الامتناع عن العمل الواجب عليهم بمقتضى القوانين واللوائح، أو عقد العمل، مع التمسك بمزايا الوظيفة العامة". ومن ساحة القضاء ثمة من عرف الإضراب على انه "توقف إرادي عن العمل من اجل تدعيم مطالب مهنية مقررة مسبقا في النظم والاتفاقيات الجماعية، لم يوف بها المستخدم أو صاحب العمل".

 تنبع أهمية الإضراب من أهمية العمل في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ومدار العلاقة -غير المستقر في اغلب الأحيان- بين أرباب العمل والعاملين نتيجة لعوامل وظروف اقتصادية في اغلب الأوقات، لذا كان لزاماً على المشرع التدخل لتنظيمها وإزالة الاحتقان ومصادر انعدام الاستقرار منها وفق ضوابط قانونية تحقق الموازنة الحرجة بين الطرفين وتكفل للطرفين مصالحهما مثلما تكفل للطرف الأضعف منهما (أي الطبقة الكادحة) حق المطالبة بحقوقها والتعبير عن احتجاجها على مظالم الطرف الأقوى بصور ووسائل عدة من أخطرها وآخرها حق الإضراب، الذي تبدو أهميته كتجربة إثبات للقوة يخوضها أجراء ضد أرباب عملهم ليبرزوا قضيتهم ومطالبهم؛ فهو –إذن- آلية لحماية حق المستضعفين من أيادي المتلاعبين بأرزاقهم ولإعلاء صوتهم للمحافظة على كيان مهم في الحياة الاقتصادية.

 وأما عن آلية الإضراب فتكون، بتوقف المضربين عن العمل في نفس الوقت، بتركهم مواقع العمل أو أن يمتنعوا عن التوجه إليه بطريقة محكمة منظمة، بتحديد الكيفية والمدة، مع الأخذ بعين الاعتبار لوازم نجاح الإضراب وما يحقق أھدافه دون الإضرار بالمصالح المطلوب تحقيقها مع محاولة درء المفاسد المتوقع وقوعها، كالمصالح التي تراعي الظروف الاقتصادية العامة أو المتعلقة بالقطاعات المضربة، وبمتابعة مخزون الإنتاج بالنسبة للطلب، والقدرات المالية للعمل كتاريخ الوفاء بالأجور والتعويضات العائلية، والمستلزمات التي تضمن استمرار خدمات الأمن وتشكيل لجان الطوارئ.

 وعلى مقيمي الاحتجاج اخذ أداورهم بشكل محكم وكما هو متفق عليه بالتنسيق مع بعضهم البعض، فيجب على الجهة المقررة للإضراب أن تبلغ مشغلها قرار الإضراب أو إلى جهة الوصية على القطاع فيما يخص المشتغلين لحسابهم الخاص على أن يتم هذا التبليغ يداً بيد مقابل وصل، أو بوساطة رسالة مضمونه أو أي وسيلة تبليغ قانونية أخرى.

 أما إذا كان الإضراب عام وطني على مستوى القطاعين (العام والخاص أو شبه العمومي) فيبلغ رئيس الحكومة ووزير الداخلية، وجهة التفاوض حول الملف المطلبي تتولاها الجهة الداعية إلى الإضراب وتقوم باستحواذ الإجراء المضربين، أما في حالة تعدد المكاتب النقابية يتم استحداث تنسيقة نقابية متكونه من عدد متساوي من المندوبين النقابيين لتتولى مهمة التفاوض مع المشغل، وفي حالة إخلال المشغل بالالتزامات المتفق عليها أو عدم الوصول إلى نتائج من خلال المفاوضات فيمكن في حينها استئناف الإضراب في حاله توقيفه من الجهة الداعية إليه وذلك خلال مدة التفاوض دون التقييد بمدة معينة.

 للإضراب صور وأساليب عدة تختلف باختلاف التوقيت والنطاق، فهناك الإضراب الإنذاري المحدد بمدته التي قد تكون (ساعات أو أيام؛ أكثر من ذلك أو أقل)، داخل المؤسسة أو خارجها، ويمكن أن يتحول إلى إضراب مستمر أو مفتوح إن لم يتم التوصل إلى اتفاق، وفيه يأتي العمال إلى أماكن عملهم، لكنهم لا يمارسون أعمالهم الاعتيادية، ويتم خوض الإضراب لمدة غير محددة ويكون مستمر أو مفتوح حتى تحقيق المطالب.

 وعند تصنيف صور الإضراب بالاستناد إلى نطاقه، فيكون وفق مستويين، يكون الأول منهما ضمن نطاق محدد بالمؤسسة التي يضرب منتسبوها، ويكون النوع الثاني منهما شاملا واسعا بنطاقه لجميع المستخدمين برعاية النقابات العمالية ومساندتها أو حتى بمساندة الرأي العام. ومن هذا النوع ينبثق نوع مقارب من الإضراب اصطلح عليه بـ(إضراب التعاطف) الذي يشترك جل عمال أو موظفي مدينة أو بلدة ما بالتعاطف مع نظرائهم في شركة أخرى كنوع من المؤازرة وتماثل القضية والمصلحة والهدف. وكان هذا النوع من الإضراب سائدا بشكل واسع في الولايات المتحدة، ولا تفوتنا في هذا المقام الإشارة إلى إضراب السجناء والمعتقلين السياسيين حينما يمتنعون عن تناول الطعام احتجاجا على وضع سيء أو سعيا لتحقيق بعض المطالب التي قد ترقى إلى الأهداف السياسية.

 ومثله كمثل أي نشاط احتجاجي، يتمخض عن الإضراب جملة من الآثار والنتائج السلبية تتمثل بشل الخدمة العامة والإضرار تباعا بمصالح المواطنين والخسائر المادية لهم وللدولة من جهة، ومن جهة أخرى يسعى الإضراب إلى تحريك الرأي العام فالنتيجة تكون إجبار الدولة على تلقي ضغوط الرأي العام والتي يعتبرها المسؤولة عن تشغيل الإدارات ذات المنفعة العامة، ومن ناحية أخرى في جانب القطاع الخاص يكون الإضراب كعامل ضغط على أرباب العمل لتحقيق مطالب العمال لسير عجلة العمل في المصانع المعامل وتؤثر سلبا على الإنتاج وبالتالي خسارة مالية في كل دقيقة إضراب تمر على أرباب العمل مما يضر بمصالحهم في كل الأحوال ومن جانب العمال يحافظ الإضراب على مصالحهم المشروعة ومطالبهم التي غالبا ما تكون بسيطة وما لجئوا إليه إلا في نهاية مطاف فشل المفاوضات.

 وإزاء ما تقدم من أضرار، انقسم الفقه إلى قسمين فيما يتعلق بحق الإضراب؛ إذ ذهب جانب منهم إلى شرعنة هذا النشاط إلا انه استثنى القطاع العام تماما لما فيه من أضرار تلحق بالمجتمع، وأما الجانب الآخر من الفقه، فقد اعتبر الإضراب حق مكفول دستوريا وقانونيا ومعترف فيه على الصعيدين (القطاع العام والخاص) ولكن بشروط معينة، وهو ما اتجه إليه الفقه الفرنسي.

 وباستنطاق الموقف التشريعي من الإضراب، يتبين لنا انه حق أصيل ومكفول في التشريعات الوطنية المواثيق الدولية؛ إذ أقرته التشريعات الوطنية في العديد من دول العالم تتقدمها بريطانيا التي أباحت للعمال حقهم بالإضراب عن العمل عام 1871م، وأقرَّته فرنسا عام 1864م وبلجيكا عام 1866م، وهكذا أصبح الإضراب العمالي في الدول الرأسمالية حقًا مشروعًا ومعترفًا، ففي سنة 1946 اعترف دستور الجمهورية الرابعة بمشروعية حق الإضراب بشكل صريح، وهو نفس المقتضى الذي أعيد تأكيده سنة 1958 في دستور الجمهورية الخامسة.

ثم اقر هذا الحق على المستوى الدولي من جانب منظمة العمل الدولية عندما أكدت في الفصل الرابع عشر من ميثاقها على أن "حق الإضراب مضمون"، إلا أن ممارسته رهينة باحترام عدد من الشروط والإجراءات اعتبارا لآثاره العميقة على الاقتصاد وسير المرافق.

 صفوة القول، يعبر الإضراب بوصفه نشاط إنساني وبصورة سلمية وحضارية عن لسان حال المقهورين من الطبقة الكادحة عند المطالبة بحقوقها المشروعة بعد أن تكون قد استنفذت سائر الخيارات السلمية الأخرى لاسترجاع تلك الحقوق، فهو احتجاج سلمي لا ضرر منه فيما لو رعيت شروطه، وهو علاوة على ذلك وسيلة لإدامة زخم الفاعلية والتفاعل الحي بين عناصر الإنتاج تحت جنح سنة التزاحم وضبط الصراع عند حدود الحضارية الدنيا لتحقيق الموازنة الحرجة بين الحاجات والأمنيات وبين إمكانيات تحقيقها دون الإضرار بمصالح الآخر.