تاريخ مدينة راوة
من مدن غرب العراق الجميلة النزهة الواقعة على نهر الفرات: مدينة (راوة)[1]، وتقابلها مدينة (عانة). وهما من مُدن محافظة الأنبار العريقة.
والنسبة إلى الأولى: الرَّاويُّ، وإلى الثانية: العانيُّ، والثانية أقدمُ من الأولى وأشهَر.
ويقع بين أهليهما ما يقع بين المدن المتجاورة أو المتقاربة من التَّنافس والتنافر، وتروى في ذلك قصص ونكات.
وقد خرج مِن كِلا المدينتين علماءُ وأدباء، وساسةٌ وعَسكريُّون...
وأُغرِقَتْ (عانة) قبل سنوات، فكتَب عنها أهلُها، ومن ذلك كتابٌ بعُنوان: (المدينة المغرقة)[2].
أما (راوة) فلم أرَ كتابًا خاصًّا في تاريخها.
وأهل هذه المدينة يعودون إلى جَدٍّ واحدٍ هو السيد يحيى بن السيد حسون، على ما قاله عددٌ من المطَّلعين والنسَّابين. ومنهم أسرة السيد رجب الرفاعي.
وكان أحد أعلامها وهو الشيخ إبراهيم بن محمد الراوي (1276 - 1365هـ) قد ألَّف كتابًا عن أُسرته سماه: "بلوغ الأرَب، في ترجمة السيد الشيخ رجب، وذريته أهل الحسَب"، وجعل له خاتمة ذكَر فيها: نبذةً مما نقِلَ له من تاريخ (راوة)، وتراجمَ بعض سُكَّانها، وما جرى لأهلها فيما بينهم من الحروب، وما جرى لهم مع أشقياء الأعراب، ومُتنفِّذي الرؤساء والمأمورين، وما قاسَوه من قَسوة المتغلبين والمستبدِّين.
ولكنه طَرَحَ ما كتبه خشيةَ الإسهابِ، والخروجِ عن القصد والصَّددِ من تأليف كتابه ذاك، كما قال في آخره ص 232؛ وبذلك ذهبَتْ معلوماتٌ مهمة لا تُعوَّض.
وليته إذْ طرحها من الكتاب أفردها في كتابٍ خاصٍّ لتبقى وتُحفظ، ويُبنى عليها، والظاهر أنه لم يَفعل؛ إذ لم يُذكر شيء من ذلك في مؤلفاته، ولم يَقع لي شيء من ذلك في مكتبة جامع سيد سلطان علي الذي كان شيخًا له.
هذا، وقد فرَغ من كتابه المذكور سنة 1330هـ؛ فقد مرَّ عليه أكثر من مائة سنة ولم ينهض أحدٌ لِمَلء ذلك الفراغ.
وللشيخ إبراهيم الراوي ترجمةٌ في الأعلام (72/1)، ومعجم المؤلفين (1/ 100).
وكان له في بغدادَ مكانةٌ عالية، وقد حدَّثني الشيخ جلال الحنفيُّ البغدادي "أنَّ الشيخ إبراهيم ذهب إلى الملك فيصل الأول وقال له: إنَّ مدير الأوقاف - وكان آنذاك عبداللطيف ثنيان - لا نريده مديرًا، فقال الملك: ننظر في المسألة! فقال الشيخ بغضبٍ وشدَّة: ماذا تنظر؟! فلانٌ لا نريده! فأذعن الملك فيصل وأخذ سماعة الهاتف فورًا، وأمر رئيسَ الوزراء آنذاك أن يَعزل عبداللطيف".
وعبداللطيف هذا هو صاحب "قاموس العوام، في دار السلام".
وقد رأى الشيخ عليٌّ الطنطاوي الشيخَ إبراهيم في بغداد ووصفه بالكرم.
ولقيتُ أنا حفيدَه المحاميَ جمال بن إسماعيل بن إبراهيم، واستجزتُه، وأجاز لي.
وإسماعيل هو بِكر أبناء الشيخ، وقد ولد سنة 1304هـ.
ووالد إبراهيم هو الشيخ الزاهد العابد الورِع الصالح السيد محمد بن عبدالله الراويُّ مفتي مدينة (عانة)، وقد تُوفِّي سنة 1289هـ.
وله شِعرٌ جمعَه ابنُه المذكور في ديوانٍ سماه "السِّفْر الحاوي، لمنظومات السيد الشيخ محمد الراوي"، رأيتُ منه نسخة مخطوطة في الدار التي كانتْ تُسمَّى دار صدَّام للمخطوطات ببغداد.
ومن أعلام (راوَة): الشيخ محمد سعيد الراويُّ (ت: 1354) مؤلف الكتاب الذي سماه محققُه الدكتور عماد عبدالسلام رؤوف: "خير الزاد، في تاريخ مساجد وجوامع بغداد".
ومنهم: الشيخ أحمد الراوي، المدرِّس الأول في المدرسة العلمية الدينية في سامرَّاء، وهو شيخ شيخنا الأستاذ عبدالكريم الدبان.
ومن أخباره ما حدَّثني به الشيخ جلال الحنفي أيضًا قال: "دعا عبدالكريم قاسم العلماء مرة وقام يخطب فيهم، فقام الشيخ أحمد الراوي وأنكر عليه، وقال: لا يَخفَينَّ عليك أن الرأي العامَّ ما يزال في أيدينا، وأننا نهزُّ العراق بأصابعنا! فسكت عبدالكريم قاسم ولم يُعقِّب".
ومن تلاميذ الشيخ أحمد: الشيخ عبدالعزيز بن سالم السامرائي النيساني الذي صار شيخَ الفلُّوجة؛ بل شيخ الأنبار.
ومن اللطائف أن الشيخ أحمد حسن الطه السامرائي زار الشيخ خليل بن محمد الفياض في جامعه في الفلوجة، فقال له الشيخ خليل: إنَّ لِسامرَّاء فضلاً علينا؛ إذ جاءنا منها شيخُنا الشيخ عبدالعزيز، فقال له الشيخ أحمد: الفضل لكم إذ جاءنا من راوَة الشيخ أحمد الراوي.
وقد آلَتْ مكتبة الشيخ أحمد إلى جامع الفياض في الفلوجة، وفيها مخطوطاتٌ وطبعات نادرة.
"أديبٌ باحث عراقي، من أعضاء المجمع العلمي العربي بدمشق.
وُلد في (راوة) وهي قرية مُشرِفة على الفُرات، تقابل (عانة) وإليها نِسبتُه، وتعلَّم الحقوق ببغداد، وعُين مديرًا للمطبوعات، فسكرتيرًا لمجلس الاعيان، فأستاذًا في دار المعلمين العالية (1939)، وتوفي ببغداد.
من كتبه: (أبو العلاء المعري في بغداد - ط)، و (بغداد مدينة السلام - ط)، و (تفسير بعض آيات القرآن الكريم - خ)، و (تاريخ العرب قبل الإسلام - خ)، نشر أكثرَه في مجلة الهداية الإسلامية البغدادية، و (تاريخ علوم اللغة العربية - ط)، و (بدائع الإيجاز - خ)، و (رسائل في مسائل - خ)، وجمع ابنُه حارث، بعض كتاباته في جزء سمَّاه (نظرات في اللغة والأدب - ط)"[3].
وقد قَطَنَ عددٌ من أهل راوَة في الجانب الغربي من بغداد (الكرخ)، وخرج منهم أعلام.
ومنهم: الأستاذ الدكتور عبدالستار الراوي أستاذ الفلسفة في جامعة بغداد، وله كتب كثيرة منها: فلسفة العقل، وهو رؤية نقدية للنظرية الاعتزالية، ومنها: قمر الكرخ "سيرة حارة بغدادية"، وهو كتاب ممتع.
ومنهم: العميد السيد صبحي بن حميد الراوي البغدادي، المتوفَّى بدمشق سنة 2007م، دفين مقبرة الغزالي ببغداد، وعمل مدة في جامعة البكر العسكرية.
وقد عرفتُه منذ سنة1991م، وكان من أهم الداعمين لنا في مشروعاتنا العلمية ببغداد، وهو جَدُّ الأبناء رحمه الله.
وممَّن يَحمل النسبة الراوية (بلقيس) زوج الشاعر نزار قباني التي قضَت في تفجير السِّفارة العراقية في بيروت، وقصيدتُه في رثائها مشهورة.
وتجد راويِّين في عددٍ من مدن العراق؛ كالفلوجة، والرمادي، والموصل، وغيرها.
وفي سورية طائفةٌ كبيرة من الراويِّين أيضًا، ولهم كذلك أخبارٌ كثيرة.
وليت أحدَ الباحثين ينهض لتدوين تاريخ هذه المدينة، ومِنْ أقدر الناس على هذا الدكتور عبدالستار الراويُّ وفقه اللهُ لذلك، وأنا متطوعٌ بمشاركته أو مساعدته.
وقد زرتُ هذه المدينة المبهجة وجارتَها (عانة) التي كانت غافيةً على ذِراع الفرات، برفقة الوالدَين، والصِّهرِ الكريمِ الشيخ حسين بن صخي الجنابي سنة (1404هـ - 1984م)، ونَعِمتُ بطيب هوائهما ومائهما، ولُطفِ أهلهما.
ومن أمنياتي العودةُ إليهما ثانية، والعيش فيهما أيامًا بعيدًا عن صخب الدنيا!
-----------------------------------
[1] وقد اختُلف في سبب هذه التَّسمية على أقوال.
[2] وفي رثائها قال الصديقُ العالمُ الأديبُ الدكتور عمر بن عبدالعزيز العاني البحريني:
النَّواعير والهَوى والفراتُ
والأساطيرُ والنَّوى والشَّتاتُ
وتَرُ الذِّكريات يعزف لحنًا
يا لقلبي ستُعزَف الذِّكرياتُ
فاحمليني على السَّفين فما لي
غير ذِكْرى الذين كانوا وماتوا
والسواقي التي تزفُّ صِبانا
والعناقيد فوقها مُشْرَعاتُ
الأمانَ الأمان إنَّ فؤادي
رهنُ ذكرى وثَمَّ تُقضى الحياةُ
النواعير والرحى وشجونٌ
وبَقايا رُسومِها والرُّفاتُ
آذَن البَينُ بالرحيل وما إنْ
ودَّعَتنا على الجوى (عاناتُ)
فإذا بالسماء تُمطِر ذِكرى
قد خلَت أمسِ قبلَها المثُلاتُ
وعانات هي عانة.
[3] الأعلام (3/ 232).